سلطان البركاني.. نموذج لجيل الكبار



في أحايين كثيرة، حين يتبوأ شخصًا مكانة ومكان في الواجهة، ومع طول حضوره في المشهد.. نفقد القدرة على رؤية جوهر الشخصية وملاحظة مزاياها النادرة.

 

سلطان البركاني، تعرفونه جيداً، تحفظون أسمه ببداهة.. ليس رجل سياسي مركزي في تاريخ البلاد فحسب، بل هو نموذج للعظمة الشخصية والطباع الملهمة، قبل كل شيئ، نموذج يماني ملهم.

 

يُعرف الرجل العظيم، ليس بما يتقلده من مناصب ويملكه من سلطات، بل بما هو عليه في تكوينه العميق.

 

يحمل الشيخ سلطان مزايا روحية وأصالة في التعامل على إمتداد الزمان، فهناك وراء المنصب وخلف الأدوار العامة تجد إنساناً حقيقياً له حضوره الخاص بين قرناءه، وسيماءه اللافتة في طريقة تعامله مع كل من عرفه. 

 

المواقع الخالدة التي يتصدرها أي شخص في أي مجال كان، لا تنشأ جزافاً، لا يمكن لشخص أن يحتفظ بحضوره ودوره وفاعليته لو لم يكن يتمتع بطباع قوية وأساس متين في شخصيته، قبل أن تلعب الظروف المحيطة أي دور في إفساح المجال له.

 

لا يمكن لشخص أن يزوّر حضوره وينجح في تصدر مكانة ما ويتجاوز كل التحولات دون أن يفقد ثباته ومرونته في إدارة اللعبة ما لم يكن حقيقياً في كل ما يتمتع به. 

 

منطقياً، تُساهم الظروف العامة المشوشة في حياة أي شعب، في إطلاق تصورات منمطة وتقييمات ضبابية لشخصية معينة، لكن هذه الأحكام تظل نتاج مزاج عام متوتر ومحبط وليست تقييمات حصيفة لشخوص مهمة لعبت دورا تأسيسياً في حياة شعبها.

 

ولعل الشيخ سلطان ممن يملك الناس عنهم آراء متعددة، تصل لدرجة التناقض، لكن وبصرف النظر عن كل هذه الأحكام، لا أحد بمقدوره نكران ما لهذه الشخصية من فاعلية وأثر كبير في حياة الشعب اليمني.

 

مالفت نظري في شخصية البركاني، تلك الذاكرة المذهلة والروح التي لا يسقط منها أي تفصيلة صغيرة، لكأنه منذور لرصد وأرشفة كل حكايا ومواقف وتأريخ مجتمعه، يتذكر الرجل أدق التفاصيل المتعلقة بكل من يتعرف عليه.

 

هي هكذا الرموز الروحية، تجدها مهتمة بشكل فطري بالبشر الذي تحتك بهم وتلتقيهم، وكما يقال :"العظماء هم أولئك الذين يشعر الجميع جوارهم بالعظمة ودفئ الحضور"، واظن كل من التقى الشيخ سلطان البركاني، لامسه هذا الشعور جيداً.

 

البركاني، أحد أهم الرموز التي صعدت من عمق مجتمعها، روح تعزية جامعة، أهم ما فيه هي تلك الرحابة اليمنية، القدرة على تجاوز الحساسيات الصغيرة، والتعبير عن روح اليمن الكبيرة.. لا أظنه يتوقف مع أي سلوك هامشي يحدث له أو معه، يحيا وكل ما فيه متوجّه صوب القضية الكبرى، حاضر ومصير اليمن، وليس في هذا تكرار لعبارات مملة، بقدر ما هو توصيف ينطبق على ما يشغل بال هذا الرجل ويصرف طاقاته كلها فيما هو مركزي وجامع. 

 

ظل الرجل قرابة الشهر في مسقط رأسه، اكتظ منزله بالزائرين من كل الأطياف الاجتماعية والسياسية، وما ان يأتي المساء حتى يتوافد إليه كل من له شكوى أو مظلمة أو نزاع عجزت عنه المحاكم من سنين، فتكون كلمته هي الفصل فيما كانوا فيه يختلفون، دون تحكيم منهم أو عدال أو يبتغي بذلك اجراً، فقد اعطيّ الحكمة وفصل الخطاب. 

 

أخيرًا.. حتى لو تشوشت رؤيتي لكل شيئ، وفقدت يقيني بهذه البلاد وحالها، لن تتزحزح رؤيتي لهذا الرجل، لن أفقد يقيني بأصالته وإمتلاكه لسرّ ما في روحه، متمسك بذلك الشعور بالثبات الذي يهبك إياه حين تقعد معه، بتلك الرفعة وإحساسك بقيمتك الذاتية وقد لامستك ظلاله الروحية وعزز فيك أنبل نسخة منك.

 

قناعتي أن البركاني جدير بما هو فيه وأن كل ما مارسه من أدوار طوال حياته، كانت انعكاس لحيويته وفيض تلقائي نابع من ثراء الشخصية وبراعتها الحقيقية في تدبير شؤون الحياة.

 

ما مبرر كلامي هذا وما مناسبته؟!  

لا مبرر سوى أن كلمة بداخلي ظلت تتحفز تجاه هذه الشخصية فأحببت تدوينها.. ثم إن المرء لا يحتاج مناسبة، للحديث عن روح يمنية خالدة، نذرت وجودها لهذه البلاد، وفعلت كل ما كان في مقدورها.. وللتاريخ الكلمة الأخيرة عنها، وللشعوب بوصلة منضبطة، وتعرف كيف تمنح كل إنسان حقه من المجد والإجلال.