البدوي عرد البواب



 

 إضافة الى حافة الميلاد والطفولة المبكرة : حافة قدر الله ، فقد عشت سنوات طفولتي بعدها متنقلا في ثلاث حافات من حوافي جعار تبعا لانتقال سكن أسرتي من حافة الى أخرى ، وانتقال مكان دراستي من مدرسة الى أخرى .

وكانت الحافة الأولى هي حافة سعيد حيمد وثابت الناصري والمجلبع التي انتقلت الأسرة إليها من حافة قدر الله ، وتقع الحافة في الشارع الموازي لشارع سينماء جعار القديمة من ناحية الشرق ، وتمتد الحافة  الى منزل المرحوم علي فريد العولقي وبيت المرحوم السيد محمد قاسم الجنيدي من ناحية الشمال ، والى منزل المرحوم محمد صالح الخريبي وبيت المهتجس من ناحية الجنوب ، وارتبطت هذا الطفولة بفترة تعلم القرآن في معلامة المرحوم شريان في منزله وفي مسجد جعار ، ثم معلامة أخرى لم أعد اتذكر اسم فقيه المعلامة بالضبط ولعله السيد يوسف أو إسماعيل ، وكان موقعها أمام منزل المرحوم محمد علي البيضاني ( حلبوب ) .

وكانت الحافة الثانية هي حافة الخريبي التي انتقلت الأسرة للسكن فيها اولا في بيت اسم مالكه مفلح تقريبا ، بجانب بيت السيد يحيى النعمي الذي كان يسكن فيه حينها المرحوم محمد عبيد بائع القات الشهير ، ثم انتقلنا الى بيت لآل الخريبي كانت تسكن فيه أسرة المرحوم حماص ملاصق لبيت المرحوم محسن هيلان ، ثم انتقلنا الى بيت آخر لآل الخريبي ملاصق للبيت الذي كنت فيه وكان يسكن فيه واحد من أقارب عمي صالح علوي امثريا اسمه مرتعة ، واستقررنا في هذا البيت حتى تمت إعادة المساكن المؤممة الى ملاكها ، وارتبطت هذه الطفولة بقوة بمرحلة دراستي الابتدائية من الصف الأول حتى الصف الخامس ابتدائي في المدرسة الجنوببة ( مدرسة الشهيد العريفي ) ، وبعدها شاركتها بنفس الوتيرة الحافة الثالثة التي لم تكن بعيدة عن حافة الخريبي .

أما الحافة الثالثة فهي حافة الفقير والبغدادي أو ( البغاديد ) والسادة أصحاب تهامة ، وكانت هذه الحافة تمتد من المدرسة الشمالية وسينماء جعار القديمة شمالا الى بيت باعطيف وحمود الدولة جنوبا ومن بيت المرحوم علي محسن الفقير شرقا الى بيت المرحوم الدكتور عمر البغدادي وبيوت السادة غربا وما حواليها ، وارتبطت هذه الطفولة بمرحلة الدراسة الابتدائية في المدرسة الشمالية ( الحمزة حاليا ) من الصف الخامس الى السابع ابتدائي .

كانت حافة الفقير هي الحافة التي بدأت من خلالها أتحسس طبيعة الحياة والناس بأشكالهم المتنوعة والمختلفة والمتعددة ، وأتعلم أوليات التعامل مع العالم حولي ، وأتذوق الشعور بشيء من الحرية والانطلاق بعيدا عن القوانين الصارمة والانضباط التي كانت تتميز بها حافة الخريبي ذات الروح الاستقراطية التي تجعلك تشعر طوال الوقت أنك تحت أعين والدك وأهلك وأي شيطنة طفولية تعملها تجد الردع فورا من الطارف رجالا ونساء وأترابا ..

كانت حافة الفقير تتحلى بالروح الشعبية في مختلف حالاتها جدا وهزلا وفكاهة ولعبا ومزحا وشقاوة وبساطة وتواضعا ورحمة ومودة ... بيوت الحافة كلها مفتوحة للأطفال كلهم ، وشوارعها متاحة للعب والقمار والزنقلة والتآمر وللنقاش السياسي والجدل ( رغم سننا الصغير ) ، ولتنظيم ( الغزوات الطفولية ) الى أعالي السوق وحافة قدر الله ، والمشاركة في المسيرات الشعبية بالرقص والهتاف والشعارات وفي الاحتفالات والمهرجانات ، وتصدف مجيء الرئيس سالمين وملاحقة سيارته ، وصنع المقالب لبعضنا البعض ، وللمارين المغادرين للسينماء ، وتحين الفرص للإمساك بيد أحد المعاريف عندما نكون ضباحى أيام الأفلام الهندية لندخل معه السينماء مجانا أو بعانات نعطيها له ليعطيها البواب خلسة ..

كان بيت الوالد المرحوم محمد حسين الفقير هو بيتي الثاني بل لقد كنت أقضي فيه وقتا أكثر مما أقضية في بيتنا ، وكان رياض ونبيل هما الأخوان اللصيقان ، وبقية أفراد البيت هم الأهل ، ووصل الأمر في بعض الأحيان أن أدخل المطبخ بنفسي أبحث عن أكل أو ماء بارد أو أسقي بعض أترابي من عيال الحافة ، باختصار لقد كان بيتنا ، والحجة محسنة بنت محسن رحمها الله هي أمي وليس فقط مثل أمي ، وكانت تسميني ( البدوي ) ومنها انتشر هذا الاسم ليصبح اسمي العام في حافة الفقير .

في إحدى الليالي كنا مجموعة من الأتراب وفي مقدمتها الرديف الروحي نبيل الفقير الله يرحمه ، وننتظر خروج رواد السينماء للهافتين ( الاستراحة الأولى ) حيث كان يعرض فلم هندي ، وكنا طفارى ولم نستطع شراء تذكرة دخول الفلم أو التسلل من البوابة الى الداخل بطريقة أو بأخرى قبل بداية الفلم.

كنا نقف في أحد الأركان بعيدا عن الأعين معلقين الأمل على اغتنام خروج المشاهدين للاستراحة ، والتسلل معهم عند العودة بعد انتهاء فترة الاستراحة ( ربع ساعة ) ، خصوصا أن البواب كان يعطي لكل واحد بطاقة صغيرة لكي يسمح له عند عودته بالدخول الى السينماء لمواصلة مشاهدة الفلم ، وكان غالبا ما يحدث أن عدد البطائق تنفد بسبب كثرة عدد الراغبين في الخروج للاستراحة ، فيضطر البواب الى الاعتماد على ذاكرته ، وفي حالة الزحام تضيع عليه الحسبة ، وينجح البعض من المتسللين في الدخول مع الرواد الحقيقيين .

وجاء الوقت وأضيئت صالة العرض ، وبدأ المكرفون ينقل صوت أغنية لأحد الفنانين للتسلية على الجمهور الجالس في الصالة خلال مدة الهافتين ، وبدأ بعض المشاهدين يخروج من البوابة ليتناولون الشاي أو السندوتش أو الصمبرة وغير ذلك ، وكان العدد كبيرا ، واستنتجنا بأن البطائق لن تكفي ، وسيكون أمامنا فرصة للتسلل مع العائدين لمواصلة مشاهدة الفلم بعد انتهاء الاستراحة .

توافدنا الى الساحة أمام بوابة السينماء ، وكان عددنا خمسة على رأسنا المرحوم نبيل الفقير ، وانتشرنا بين الموجودين ، وكانت عيني طوال الوقت ترقب البواب ، وتعمدت أن يراني وأنا أقلب مطايب الصمبرة وأغسل المعلقة ، وأعمل نفسي مستعجلا لكي أوهمه بأني حريص أن لا يضيع علي الوقت ويبدأ الفلم قبل أن أتمكن من تناول الصمبرة ، وعندما بدأ وقت الاستراحة يتقلص ، وأخذ المشاهدون يعودون الى الصالة ، جمدت قلبي ، واتجهت الى بوابة الدخول بخطوات هادئة ، فسألني البواب : وين بطاقتك ؟ 

قلت له : ما اعطيتني بطاقة 

فنظر إلي قليلا ، ثم قال : ادخل 

فدخلت ، وأنا بين مصدق ومكذب ، وأخشى أن يوشي بي أحدهم ، وينبه البواب الى حيلتي ، واتفاجى بيد البواب وهي تمسك بي وتهزرني الى الخلف ، ولكن ستر الله ولطف ، وفزت بمشاهدة مجانية من الشوط الثاني للفلم ، أما بقية الرفاق فبعضهم فشل وهو يحاول المغالطة وانفضح أمره ومنهم نبيل الفقير الله يرحمه والبعض الآخر لم يتجرأ وفضل عدم المحاولة من الأساس ، فكنت الوحيد من بين الأصدقاء الذي نجحت حيلته .

وفي الصباح أصبحت رواية وقصة الحافة ، وبيت الفقير على وجه التحديد ، واطلقت أمي محسنة ، الله يرحمها ، عبارتها الشهيرة ( البدوي عرد البواب ) التي صارت لسنوات طويلة لازمة لجميع أصدقاء الحافة ، وإشارة الترحيب التي أقابل بها كلما أقبلت عليهم ، وكلما ولجت الى بيت المرحوم محمد حسين الفقير ، وكلما مررت في الشارع وكان أحد أفراد أسرة الفقير يرقبني من داخل المنزل ..

ومازال صوت المرحومة أمي محسنة حتى الآن يرن في إذني وهي تقول كلما رأتني : 

جاء البدوي عرد البواب .