في النصف الأخير من عام 2024



النصفُ الأولُ من عام 2024 ودَّعَنا راحلاً منذ أيام قلائل. ولو كان بمقدوري لرميت خلفه بسبع حصوات، كما يفعل الليبيون قديماً لدى مغادرة ضيوف ثقلاء بيوتهم، بأمل اللاعودة. وها هو عالمنا بدأ يخطو بأقدام متثاقلة نحو نصفه الأخير.

 

عام 2024 لم يأتنا بما نحبُّ أو نكره، وهذه حقيقة، لأنّه لدى وصوله وجد تركة مُحزنة من أزمات وحروب في انتظاره، خلّفها العام الراحل. ونحن على علم مسبق بذلك. وكفانا الله شرّ المفاجآت.

 

في النصف الثاني والأخير، من هذا العام، وفي بدايته، سنشهد تغيّرات مهمّة في بلدين كبيرين: فرنسا وبريطانيا. بريطانيا تستعد خلال هذا الأسبوع، وتحديداً يوم الجمعة المقبل، لاستقبال حكومة جديدة، عمالية الهوّية، وبرئاسة كير ستارمر. ولا أعرف حقاً إنْ كان التغيير مدعاةً للفرح أم لا. إذ ماذا بمقدور ستارمر وحزب العمال فعله لحلٍّ ما سيجدونه متراكماً في انتظارهم من مشكلات وأزمات؟ لكنّه تغيير على أي حال. وهناك مثل شعبي ليبي يؤكد أن «تغيير السروج فيه راحة». والسؤال: راحة مَن تحديداً؟

 

فرنسا هي الأخرى تستعد لتغيير لا أحد بمقدوره المراهنة على إيجابيته. وما كان خارج نطاق التوقع، منذ سنوات قليلة مضت، من المحتمل جداً أن يصير واقعاً فعلياً. التغيير المتوقع لن يكون انقلاباً عسكرياً، بدبابات ومدرعات، تحوم في الشوارع والميادين، بل سيتم سلمياً، أي برضا وقبول الفرنسيين. فهم من سيُدلون بأصواتهم في الجولة الثانية من الانتخابات النيابية يوم الأحد المقبل. وهم من سيقررون من يتولى مقاليد الحكومة. لكنّهم، وهذا واقع الحال، سيسلمون أمورهم لامرأة ترفع راية سياسية لا يجهلونها. وتطالب باتخاذ وتنفيذ سياسات كانوا يمقتونها، ألا وهي مارين لوبان. وهي ليست مجهولة الأصل والنسب بالنسبة إليهم. وهم على إدراك ووعي بتاريخها السياسي وتاريخ أبيها المؤسس لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، الذي صار منذ عام 2011 يحمل اسم التجمع الوطني، بعد تعريضه لعمليات تجميل ضرورية، تمنحه ملامح إنسانية مقبولة.

 

على مستوى آخر، وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، لم ينتهِ شهر يونيو، إلا وعرف العالم –دولاً وأمماً وشعوباً- أن الرئيس الأميركي الحالي والمرشح عن الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة جو بايدن، سيغادر البيت الأبيض، ومحلّه سيحلُّ الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب. حدث ذلك على الهواء مباشرةً، يوم الخميس الماضي، بأتلانتا، لدى المناظرة الرئاسية الأولى بين المرشحين. المرشح الجمهوري ترمب تمكن من إنزال هزيمة مذلّة بخصمه، وبالضربة القاضية الفنّية.

 

المرشح ترمب لم يكن مقنعاً في النقاش كعهدنا به، ولم يتغير قيد أنملة. لكنَّ خصمه، بسبب ثقل الأعوام الثمانين، لم يكن قادراً على مجاراته في الحلبة. وهذا يعني أننا مقبلون على مرحلة ترمبية ثانية. مما يعني أن النصف الثاني من العام لا يقل رداءة عن نصفه الأول. هذا من جهة.

 

من جهة أخرى، فإن عودة ترمب إلى البيت الأبيض بقدر ما تحمل أخباراً سيئة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وإلى قيادة حلف الناتو، ورئاسة الاتحاد الأوروبي، فإنها تحمل في الوقت ذاته أخباراً مدعاة للبهجة والسرور إلى دول وعواصم أخرى: موسكو على سبيل المثال.

 

لا أستطيع، على وجه الدّقة، رصد التأثيرات التي ستُحدثها التغيرات المذكورة أعلاه على حرب الإبادة في غزة، التي تشنّها إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين. والأرجح أن رئيس الحكومة الإسرائيلية وائتلافه اليميني المتشدد الحاكم لن يحزنوا كثيراً على رحيل الرئيس الأميركي الحالي بايدن. وفي الحرب الدائرة منذ أكثر من عام في السودان، حيث أخبار المجاعة والتشريد والتهجير تستحوذ على قلق المسؤولين في منظمات الإغاثة الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، تبدو الشاشة مشوشة سياسياً. فالسودان، على أهميته الجغرافية وما يحتويه من موارد طبيعية، ومأساة الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، ظل طيلة المدة الماضية خارج رادارات الدول الكبرى، لانشغالها بالانتخابات. ورقعة الحرب لم تنكمش، بل تتسع كل يوم، ويرتفع أعداد الضحايا، والمهاجرين والمشرّدين. لكن لا تبدو في الأفق القريب نهاية للمعاناة الإنسانية، ولا نهاية لحرب الجنرالين، أو الجنرالات. ذلك أن بطولة الدول الأوروبية لكرة القدم في ألمانيا تستقطب الانتباه والاهتمام، وتشغل شعوب وأمم العالم. وبعدها مباشرةً ستأتي ألعاب الأولمبياد. وعلى أطفال السودان الجوعى والمرضى والمشرّدين والمهجّرين الانتظار، إن استطاعوا.