من بواكير تطرّف سيد قطب



 

ناصبَ سيد قطب الفلسفةَ الإسلاميةَ العداءَ في أول كتاب إسلامي له، وهو كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الصادر عام 1949، وعابَ على جامعِ الأزهر تدريسَها.

 

الصفحاتُ التي تضمَّنت الفقراتِ التي أعلنَ فيها هذا الموقفَ حذفَها من هذا الكتاب ابتداءً من طبعةٍ من طبعاته الأُول. وهي إمَّا أن تكونَ الطبعة الثالثة (1952) أو الطبعة الرابعة (1954) أو الطبعة الخامسة (1958).

 

يقول سيد قطب في هذا الكتاب: «ولقد كانت للأزهر بصفة خاصة رسالة لم يقم بها في هذا المجال.. أن يبحث عن هذه الفكرة الكلية للإسلام، وأن يعرضها عرضاً كاملاً قوياً، بلغة العصر وأسلوبه، وأن يوازن بينها وبين المذاهب الفلسفية الأخرى؛ وبدلاً من أن ينهض بهذه الرسالة راح يدرّس في كلية أصول الدين ما يسمى خطأً بالفلسفة الإسلامية، من كتب ابن سينا وابن رشد... هذه الانعكاسات للفلسفة الإغريقية، التي لا صلة لها بحقيقة الفكرة الإسلامية الكلية. فكان هذا إمعاناً في إهمال الرسالة الملقاة على عاتق الأزهر؛ وإعلاناً للهزيمة الروحية والفكرية في المعقل الأول للفكرة الإسلامية!».

 

ثم يأمر المصريين «لتكوين فكرة إسلامية صحيحة عن الكون والحياة والإنسان، ألّا ندرّس الفلسفة الغربية - وما يتبعها من مبادئ الأخلاق - في القسم الثانوي من مدارسنا إطلاقاً. ولا تدرّس في الجامعة أيضاً إلا بعد السنتين في قسم الفلسفة على أقل تقدير. وبطبيعة الحال لا تدرّس في الكليات الأزهرية إلا أخيراً. ويجب أن تسبقها في كل معهد تدرّس فيه دراسة إسلامية خالصة، تقرر الفكرة الإسلامية الحقة، مبرأة مما يسمى الفلسفة الإسلامية».

 

في رسالة مفتوحة وليست خاصة كتبها إلى توفيق الحكيم من واشنطن، نشرت في مجلة «الرسالة» في 16 مايو (أيار) 1949، العدد 828، تحت عنوان «إلى الأستاذ توفيق الحكيم» أكد موقفه الرافض للفلسفة الإسلامية ولتدريسها الذي كان قد قاله في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وكان هذا الكتاب وقت نشر رسالته المفتوحة حديث الصدور، ولم يحصل سيد قطب بعد على نسخة منه.

 

حسب صلاح الدين الخالدي، استناداً إلى مجلة «الكتاب»، الكتاب صدر في شهر أبريل (نيسان)، ورسالة سيد قطب المفتوحة إلى توفيق الحكيم نُشرت في الشهر الذي يلي شهر صدور الكتاب. وهذا المرجع الذي استند إليه يحسم جدل المختصين بسيرته حول التاريخ الدقيق من عام 1949 لصدور الكتاب.

 

وللأسف هذا الكتاب الذي قضى سيد قطب ما لا يقل عن أربع سنوات في تأليفه، عبث به بعد صدور طبعته الأولى، حذفاً وتعديلاً وزيادةً إلى عام 1964. ولو لم يعدم عام 1966 لكان واصل هذا النوع من العبث بهذا الكتاب.

 

دليلي على أن سيد قطب حين كتب الرسالة المومأ إليها لم يكن بين يديه بعد نسخة من كتابه، أنه وهو يسوق الحيثية التي يستند إليها في رفض الفلسفة الإسلامية في الأزهر ورفض تدريسها، أنه وضع لها هامشاً طلب فيه من القارئ الرجوع إلى فصل من كتابه عنوانه «فكرة الإسلام عن العدالة الاجتماعية».

 

هذا العنوان غير موجود في الكتاب، وإنما يوجد عنوان قريب منه، وهو عنوان الفصل الثاني «طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام». والخطأ الثاني أن الفصل المقصود بالمطالبة بالرجوع إليه بدعوى التعرف أكثر على رأيه في الفلسفة الإسلامية وفي تدريسها، عنوانه مختلف جداً عن العنوان الذي ذكره، وهو الفصل الأخير «حاضر الإسلام ومستقبله» الذي تلته خاتمة قصيرة عنوانها «على مفترق الطرق».

 

مما يعني أنه كان في ذلك الهامش يعتمد على ذاكرته، والذاكرة أحياناً - أو ربما كثيراً - تخون في تذكر بعض الأسماء وبعض العناوين بدقة.

 

وقد قلت بـ«دعوى» التعرف أكثر على رأيه في الفلسفة الإسلامية وفي تدريسها، لأنه في الرسالة المفتوحة لم يكن مقتضباً في إبداء رأيه فيها وفي تدريسها، بل بسطه على نحو كامل. وهذا ما ستتأكدون منه، حين أورد قسماً كبيراً من رأيه في هذا المقال. السبب الحقيقي هو أنه كان فرحاً بصدور الكتاب الذي يمثل تحولاً حاداً في مجرى كتاباته ومؤلفاته، فوجد في الرسالة المفتوحة فرصةً سانحةً لإخبار قراء مجلة «الرسالة» الأسبوعية في مصر وفي العالم العربي بصدور الكتاب.

 

مما يجدر ذكره ضمن هذه التفاصيل الصغيرة حول الطبعة الأولى من الكتاب، أن الفصل الأخير مع أنه موجود عنواناً في متن الكتاب إلا أنه سقط ذكره في فهرس المحتويات.

 

مما قاله سيد قطب في رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم: «فكرة أريد أن أصححها عن الفلسفة الإسلامية، كما يصورها ابن رشد وابن سينا والفارابي... فقد ألممت بها في بحثك الممتع الطويل. أن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها الفلسفة الإسلامية بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين. ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها فلسفة الإسلام. وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!

 

إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلّا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة».

 

ثم يوجه مباشرة لوماً يبلغ حد التقريع إلى توفيق الحكيم وإلى جيله، قائلاً: «ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون به أنتم الآن - أنت وجيل التمهيد من الشيوخ - فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة. والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس! من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم... وهكذا تعملون!... ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرّس في كلياته إلّا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!». وللحديث بقية.