حرب إسقاط المفاهيم
لا سقف لما سوف يقال عن حرب إسرائيل على غزة، التي لما دخلت عامها الثاني في السابع من الشهر الجاري، انتقلت من جبهة الجنوب في فلسطين إلى جبهة الشمال في لبنان.
ولكن من بين ما سوف يقال عنها إنها حرب إسقاط المفاهيم في المنطقة وفي العالم، لأنه لا يوجد مفهوم من المفاهيم المتعارف عليها في الحروب إلا وسقط فيها تقريباً، وإلا وأصبح في حاجة إلى إعادة تعريفه من جديد.
من بين هذه المفاهيم على سبيل المثال مفهوم حقوق الإنسان، التي حظيت بمواثيق تحميها إذا ما قامت حرب بين دولتين. ففي الحروب يكون الإنسان هو الوقود في العادة، ولذلك، كانت تجربة الدول مع الحروب كفيلة تاريخياً بأن تضع ما يحمي الحدود الدنيا من هذه الحقوق.
وإذا شئنا قلنا إن الميثاق الأول في هذا السياق هو حديث الرسول (عليه الصلاة والسلام)، الذي كان إذا أرسل جيشاً إلى حرب راح يوصيه ويقول: «لا تقتلوا طفلاً، ولا امرأة، ولا شيخاً، ولا تحرقوا شجرة».
ومن الجائز أن يبادر أحد فيقول إن هذه تعاليم نبي الإسلام لأهل الإسلام، وإن غير أهل الإسلام ليسوا ملزمين بها، وهذا خطأ بالطبع في القياس بين تعاليم دين وتعاليم دين آخر، لأن الأنبياء كلهم جاءوا إلى الإنسان من حيث هو إنسان، ولأن حقوق الإنسان لا يقلل من شأنها دين الإنسان، ولا جنسيته، ولا لغته، ولا لونه، ولا أي شيء من هذا النوع. حقوق الإنسان هي شكل وجوهر، وما دام الإنسان فيها هو الشكل فهو المضمون كذلك.
ولم يكن البروفسور الفرنسي ديديي فاسان، يبالغ في شيء عندما قال إن بلاده إذا كانت قد تلقت هزيمة عسكرية أمام الألمان في بدايات الحرب العالمية الثانية، فهي قد تلقت هزيمة أخلاقية في الحرب على غزة.
هذا صحيح إلى حد كبير، وإنْ كانت فرنسا قد حاولت أن تتخفف من هذه الهزيمة، إذ دعا رئيسها ماكرون إلى وقف بيع السلاح إلى إسرائيل، ثم دعا في مرة ثانية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى أن ينتبه إلى أنه إذا كان يسمي الحرب التي يخوضها على الفلسطينيين في غزة «حرب الحضارة» فإن ذلك لا يعني زرع الهمجية.
قال الرئيس الفرنسي ذلك فلم يَسْلَمْ في المرتين من الهجوم الإسرائيلي العنيف عليه، غير أنه كان يرى فيما يبدو أن ما جرى ولا يزال في غزة ثم في لبنان، أفدح من أن يَسكت عنه سياسي لديه الحد الأدنى من الضمير الإنساني في العالم.
ولم يكن البروفسور فاسان يقصد بلاده وحدها وهو يتحدث عن الهزيمة الأخلاقية، لأن الغرب كله يبدو في هذه الهزيمة سواء مع كل أسف، وقد تابعنا المستشار الألماني أولاف شولتس وهو يقول إنه قرر إمداد إسرائيل بما تحتاج إليه من السلاح وأنه سوف يمدها بالمزيد.
هنا لا مجال لحقوق الإنسان ولا للحديث عنها، وإذا كان لها مجال فبالقدر الذي يسع أهل الغرب وحدهم، أما إذا اتصل الأمر بالفلسطينيين الذين قُتل منهم 45 ألفاً، وأُصيب ثلاثة أضعاف هذا الرقم، وجرى تشريد الملايين من بينهم، فإن المسألة فيها قولان كما قيل، ومن شأن ذلك أن يجعل حقوق الإنسان تظهر كأنها خُلقت للغرب، وأن أهل الشرق ليس لهم فيها نصيب.
مفهوم حقوق الإنسان تضرر في هذه الحرب كما لم يتضرر من قبل، ولا أحد يعرف كيف يمكن للغرب أن يأتي بعد أن تضع أوزارها ليكلمنا عن حقوق الإنسان، أو يعطينا فيها دروساً، كما كان يفعل معنا في مرحلة ما قبل اشتعال الحرب؟
ولم يكن حظ مفهوم «الحرب خُدعة» بأفضل من حظ مفهوم حقوق الإنسان في هذه الأيام، فلا نزال نتابع المواجهات العبثية التي تتوالى بين إسرائيل وإيران، وقد كان آخرها الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف إيران فجر السادس والعشرين من هذا الشهر.
لقد قيل عنه إن تل أبيب أحاطت طهران علماً به قبل وقوعه، وقرأنا بعده أنه تسبب في مقتل شخصين، أي إن عدد ضحاياه كان أقل من عدد ضحايا أي حادث سير عابر. ولم يكن هو وحده الذي تابعناه على هذه الصورة غير المفهومة، فهجوم إيران على إسرائيل في أول أيام هذا الشهر كان من النوعية نفسها، وكذلك الهجوم الإسرائيلي على إيران في شهر أبريل (نيسان) من هذه السنة!
لا بد أن ما بين البلدين أعقد في حقيقته من هذا العبث الظاهر بكثير، ولكننا نتحدث عمَّا نراه أمامنا، وعمَّا نتابعه، فلا يكاد العقل يستوعبه ولا يستسيغه.
كانت الحرب على غزة سبيلاً إلى إسقاط مفاهيم كثيرة عشنا نعرفها، وحين يهدأ غبارها سوف نرى أنه لا نهاية للمفاهيم التي تضررت في ساحتها، وأن نارها أصابت مفاهيم مستقرة بمثل ما أصابت البشر ولم تخطئ الحجر.