صناعة الفوضى والصراع في اليمن



يُشكل الصراع والفوضى في اليمن أحد أبرز عناصر استدامة الأزمة فيه، حيث أن الفوضى مسؤولة بدرجة أو بأخرى عن تأخر الحسم وإطالة الصراع، كما أنها تقف حجرة عثرة أمام إمكانية التوصل لرؤيه شاملة تنهي الصراع وتقضي على كافة أشكال ملشنة الدولة واستعادة الأمن والاستقرار على كامل اراضي الجمهورية اليمنية، يعود هذا الفشل لسيطرة الفكر الفوضوي وانعدام التقديرات السليمة التي من شأنها تحدد الفرض والمخاطر وتُعيد ترتيب الأولويات.

وبدل ذلك، يتم إبقاء الصراع مشدوداً إلى هدفِ، تكشٌَفَ عبر تجربة الصراع المريرة، أنه غير واقعي ولا ممكن حله سوى بأدوات الفشل التي تم تجربتها سابقاً ويتم الآن إعادة تدويرها بشكل مناطقي منافي تماماً للروح الوطنية التي يتشدقون بها مع كل خطاب يأتي فيه الحديث عن المعركة واستعادة الدولة

 

وحتى في ظل أرجحية سيطرة طرف على مساحة أكبر من الجغرافيا اليمنية، لن تُنهي هذه المسألة جدلية المنتصر من المهزوم، مادامت الأطراف تقيس انتصاراتها بحجم المساحات التي تسيطر عليها، لا بحجم العمل الوطني الذي من شأنه أن يوحد الصفوف نحو صنعاء بعيد عن أي مشاريع وأجندات خارجية 

 

إن الفوضى في اليمن على صعيد الكيانات والسلاح، لم تعد مسألة مقاربتها مهمة فقط من حيث تأثيرها على الصراع في المرحلة المقبلة، والتي من شأنها أن تُحدد مسار هذا البلد وحجم المصاعب والمآزق التي تنتظره مالم يجري تفكيك حالة العشوائية التي أصابت الشرعية وحلفائها بالشلل

 

لقد سعت ميليشيا الحوثي إلى خلق مجال فوضوي داخل صفوف خصومها، بحيث ينطوي هذا المجال على فوضى من سلاح وفاعلين، حينها سيصبح من السهل طمس الحقائق وتغييبها ويتساوى الجميع أمام الرأي العام الدولي في صناعة النكبة، وفي أفضل الأحوال سيأتي الحل على شكل مصالحة بين أمراء الحرب، وهذا ما تحقق للحوثي حتى اللحظة، مع الأخذ بالإعتبار حجم ونفوذ كل منهم والمساحات التي يسيطر عليها.

 

هذه المسائل كانت تقديرات ميليشيا الحوثي الأولية عن مآلات الحرب في أشهرها الأخيرة وإدراكها أنها لن تعبرها بسلام، كما عبرت من سوابق قبلها، مثل مجزرة تعز وحجور وغيرها من المجازر التي ترتكبها بحق معارضيها، حصل ذلك بعد ارتكاب أجهزتها العسكرية والاستخباراتية لمجازر يومية بحق  معارضيها من المواطنين العزل، وتقديرها أيضاً لحاجتها لمزيد من العنف من أجل وقف زخم أي نية لثورة ضدها، وهذا الأمر لاشك يحتاج إلى مبرر قوي يكفي لتغطية كل الممارسات العنيفة التي تخطط لاستخدامها ضد المواطنين، ولتحقيق ذلك، أفرزت الذهنية الاستخباراتية التابعة لعناصر الحرس الثوري المتواجدين في صنعاء جملة من التكتيكات لصناعة الفوضى واشغال الناس بقضايا عديدة مثل الجرائم الجنائية والسرقات والاغتيالات وحروب الإعلام بين المناصرين لها والرافضين.

 

بالإضافة إلى استخدام العامل الطائفي بكثافة عبر الإشارة إلى أن معارضيها في الجانب الآخر خاصة من أبناء محافظة "تعز" والذي يتم وصفهم  بـ " الدواعش" وهي إشارة إلى أنهم من الطرف السني، وبالتالي فإن لا حظوظ لهؤلاء بتحقيق مطالبهم وحقوقهم المشروعة أو حتى المطالبة في رفع الحصار عنهم طالما أنه جرى الحكم عليهم مسبقاً بالتطرف والعمالة لأنظمة إقليمية يفترض أنها شريك رئيسي مُهم وفاعل في تحرير مدينتهم من قبضة وحصار ميليشيا الحوثي.

 

ساهمت صناعة الفوضى والصراع في اليمن إلى تحوله إلى صراع إقليمي ووقوعه على خطوط الصدع الإقليمية والمذهبية، إلى حاجة اطراف إقليمية لتجهيز البنية التحتية التي تساعدهم على الفوز في هذا الصراع، وقد نشأ نتيجة ذلك، وفي الجبهتين المتقابلتين، ظهور العشرات،  من التشكيلات العسكرية بأسماء وصفات مختلفة مع إغراق هذه التشكيلات بصنوف عديدة من الأسلحة التي لم يتم استخدامها للحظة في معركة استعادة صنعاء بل جرى استخدامها بين الأطراف المتحالفة ضد الانقلاب الحوثي في تعز، ومأرب، وعدن، وشبوة، ومناطق أخرى من جنوب اليمن.

 

في المقابل وعلى جبهة الشرعية، شكلت هذه الملامح إرهاصات لمرحلة قادمة خطرة، سيصبح فيها العمل العسكري وشعار استعادة صنعاء مجرد أفعال سلبية وصبيانية تقتل الإرادة بداخل الجندي والمواطن الذي يبدو كل يوم على أهب الاستعداد لاسترداد حقوقه المنهوبه ودولته المخطتفة، هذا الأمر قد يحتم الانتقال إلى نمط جديد من المقاومة، يُشكل السلاح والتنظيم الشعبي عناصره الأبرز، نظراً لافتقار الشرعية لقيادة موحدة وتنسيق موحد على مستوى الوطن والمعركة، من الطبيعي أن يحصل هذا الأمر ضمن نطاقات ضيقة وبسرية تامة، وبدون رؤية موحدة لخريطة الأهداف المطلوبة وإدارة مسرح الصراع الذي سينتقل للشارع اليمني بعد أن أفقدته الشرعية الأمل بالقضاء على ميليشيا الحوثي الإرهابية.

 

وفي حال حدوث ذلك، لن يتأخر الإنخراط الإقليمي على جبهة الشارع اليمني، حيث ستعمل الأطراف الداعمة للشارع اليمني إلى تقديم الدعم كما عودتنا بطريقة عشوائية وغير مدروسة ومنظمة، في ظل اعتقاد هذه الأطراف أن تكبير حجم القوة المقاتلة سيسرع من الانتصار على الميليشيا، أو على الأقل لن يسمح لها بالانتصار بسهولة على الشارع اليمني، وقد تميزت أولى مراحل عاصفة الحزم بالعشوائية في الدعم، وساهمت في خلق صراعات داخل الشرعية على التمويل ومصادر الحصول على السلاح، كما خلقت حالة من الفوضى على صعيد التشكيلات وأيديولوجياتها وشعاراتها، وتحولت بعض تلك التشكيلات من الاعتدال إلى التشدد لموافقة مزاج الجهة الداعمة ومواكبة سياستها الخارجية، كما تشكلت تحالفات وانفضت بعد فترة قصيرة بسبب تغير مصادر الدعم أو لوجود عروض أفضل للدعم من جهة أخرى، مما ساهم في صناعة الفوضى الفصائلية التي سيتحول معها التنبؤ بدينامية عملها أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً في ظل تلك الحركة المتسارعة من التغيرات في الملف اليمني وكذا المواقف السياسية للأطراف الإقليمية والدولية.

 

 

كما ساهمت أيضاً كثرة ولادة التكتلات السياسية والعسكرية الممولة خارجياً في توسيع مجال الفوضى وتقليل فعالية " المعركة الوطنية " وحرفها بإتجاه أهداف نشأت على خلفية توفّر السلاح والتمويل وأجندات الممول والداعم.

وقد لوحظ في الآونة الأخيرة ظهور نزعات جديدة لدى بعض هذه الأطراف سيكون لها أثر كبير على مسار المعركة في المراحل اللاحقة.

 

إن قتل الإرادة الشعبية بدأ بإتجاه الشرعية نحو الاستقرار في المكان والاكتفاء به وإغلاق نافذة العمل العسكري لإستعادة صنعاء عند حدود  مناطق سيطرتها، وقد عملت الأطراف المناهضة للحوثي على التكيف مع هذا المعطى بأن تراجعت عن الهجوم وتحولت للدفاع أو في أقصى الحالات الرد على ضربات ميليشيا الحوثي، مما سهل للميليشيا عملية حصار خصومها ببطئ وبتخطيط هادئ

 

وليس هذا فحسب بل إن الاتجاه إلى الصراعات البينيه نتيجة الاختلاف في التوجهات والمرجعيات ساهم أيضاً في خلق فوضى وفراغ على المستويين السياسي والعسكري، وأيضاً الصراع على الموارد في مناطق سيطرة الشرعية كان الأبرز منذُ تولى هادي للرئاسة وورث هذا الصراع لمن أتوا بعده، بل أن التناقض داخل مكون الشرعية فاق بدرجة كبيرة صراعهم مع ميليشيا الحوثي الذي أصبح ثانوياً مع مرور الوقت.

ونتيجة لذلك، فشلت جميع محاولات هيكلة الشرعية وبنائها على أُسس وطنية، ووضعها في إطار موحد بهدف الاستفادة من زخمها في تفعيل العمل العسكري ضد الحوثيين، وتطويره إلى الحد الذي يجعلها قادرة على فرص شروطها أو ضرب خصمها في أقل الخسائر الممكنة.

 

ثبت أن الفوضى في اليمن هي الحالة الأكثر ملاءمة لإيران لتحقيق مصالحها، وهذا عائد بدرجة كبيرة إلى طبيعة التكوين السياسي والعسكري الإيراني والإيديولجية الحاكمة. فإيران بلد يفتقر لعناصر القوة التي تجعله قادراً على تحقيق نفوذ عبر القوة الناعمة التي لا يمتلك منها شيئاً.

 

وبناء على ذلك، تشكل سياسات إيران دينامية دائمة لاستمرار الفوضى في اليمن والإقليم برمته من خلال إستخدام أدواتها وأذرعها في المنطقة بوهم الدفاع عن العتبات المقدسة وآل البيت. ولن يكون اليمن في أحسن أحواله، أو أفضل من سوريا والعراق اللذان يئنان تحت وطأة الفوضى ويتحولا لدول فاشلة، إذ لا يبدو أنهما سيكونان مقدر لهما الخروج من هذه الوضعية لسنين قادمة في ظل تعدد المصالح والغايات واختلاف المُحفزات.