يونس الركاب يخوض في مسائل الهوية والتكنولوجيا والانتماء
يتنافس المخرج المغربي يونس الركاب في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في نسخته الرابعة والعشرين بفيلمه الجديد الذي يحمل عنوان “404.01”.
يحكي الفيلم قصة جديدة على المغاربة ومعقدة تتناول موضوعات الهوية والتكنولوجيا والانتماء في سياق معاصر، وبأسلوب يجمع بين التشويق والإثارة. وقد أبدع يونس الركاب في تقديم رؤية سينمائية تمزج بين السرد الواقعي والخيال، ما جذب انتباه الجمهور في قاعة العروض الكبرى بقصر الفنون طوال مدة عرض الفيلم البالغة 100 دقيقة، وهو فيلم من سيناريو محمد حافيظي وبطولة حسناء مومني وعبدالنبي البنيوي.
يقدم “404.01” معالجة مختلفة لقصة خيال علمي نادرة في السينما المغربية، ما يجعله إضافة على مستوى الكتابة والطرح، حيث ينجح في طرح أفكار معقدة تتعلق بالزمن والمستقبل والقدرة على التحكم في المصير، وهو ما يظهر من خلال حبكة تثير التوتر والقلق؛ إذ تتلقى البطلة أوامر غامضة من المستقبل لتواجه أحداثًا غير متوقعة، وهذا الطرح يعكس توجها فلسفيا يتعلق بتشابك الحاضر والمستقبل، وتبعات اتخاذ قرارات مصيرية بناءً على معرفة مسبقة بما سيحدث.
ويمزج السيناريو بين الواقعية والخيال بطريقة غامضة خاصة عندما يتم تصوير البطلة في مهنة حساسة؛ فهي طبيبة جراحة، ما يجعل انتقالها إلى عالم الخيال العلمي أكثر تأثيرا، فتقديم المستقبل عبر موجات صوتية هو ابتكار درامي معروف حدث في أفلام كثيرة لكنه يسمح للنص بالبقاء في نطاق الخيال العلمي دون اللجوء إلى المؤثرات التقنية المفرطة، وهذا الاقتصاد في الوسائل التكنولوجية يعكس حنكة في الكتابة، حيث يعتمد السيناريو بشكل أكبر على بناء التوتر النفسي بدلا من الخيال البصري المبهر.
الفيلم يتبع أسلوبًا تصاعديًا في الأحداث، حيث تتزايد التحديات التي تواجه البطلة تدريجيًا وصولا إلى ذروة تورطها في جريمة قتل طفل، وهذه الحبكة المتشابكة تضيف إلى القصة بعدا نفسيا عميقا، وتسمح للمشاهد بالتفاعل مع الصراع الداخلي للشخصية.
وتتجنب المعالجة الدرامية هنا الحلول السهلة أو المباشرة، ما يزيد من تعقيد الشخصيات والأحداث ويعزز شعور المشاهد بالترقب، ويترك مساحة للتأويل والشك، وهو ما يعزز الغموض ويعمق أبعاد الحبكة ويعكس رؤية متقدمة في كتابة السيناريو، حيث لا يقدم المستقبل كحقيقة ثابتة بل كإمكانية قد تتغير بناءً على أفعال الشخصيات.
ويعكس أداء حسناء المومني في فيلم “404.01” تطورًا واضحًا في تجسيد الشخصيات المركبة والمعقدة، خصوصًا في دورها كطبيبة جراحة تُجبر على التعامل مع أوامر قادمة من المستقبل، وجسدت الصراع الداخلي الذي تعيشه البطلة بين مهنتها وما يحدث من اضطرابات نفسية نتيجة للأحداث الخارقة للطبيعة.
المومني تميزت بقدرتها على إظهار مشاعر القلق والتوتر والاضطراب النفسي سينمائيا بين أداء دور الطبيبة العقلانية والمرأة المتورطة في أحداث غير منطقية، خاصة في اللحظات التي تتعامل فيها مع التوتر الناتج عن سماع الأوامر الغامضة. لقد أظهرت تنوعًا في الأداء من خلال إظهار القوة والضعف في نفس الوقت، ما أضاف عمقًا للشخصية.
أما بالنسبة إلى عبدالنبي البنيوي فقد نجح في تقديم شخصية معقدة تساعد في بناء الحبكة بعفوية وتميز بالقوة والثبات وأضاف إلى القصة لحظات من الغموض والتوتر، واستطاع أن يوازن بين الحضور القوي للشخصية والأبعاد النفسية التي تجعلها تبدو غير قابلة للتوقع وقدم دوره بطريقة تعتمد على الإيماءات والتفاعلات الهادئة التي تنقل أبعادًا عميقة من الغموض، ما جعله عنصرًا فعالًا في تعزيز الأجواء النفسية والدرامية للفيلم.
ويمكن القول إن كلا الممثلين ساهم في تقديم أداء يليق بتعقيدات النص.
الفيلم يتبع أسلوبًا تصاعديا حيث تتزايد التحديات التي تواجه البطلة تدريجيّا وصولا إلى تورطها في جريمة قتل طفل
ويظهر بوضوح أيضا تعلق المخرج يونس الركاب بعائلته من خلال استخدامه صورةَ والده الراحل، المخرج محمد الركاب، وهي لمسة رمزية تحمل دلالات عميقة، وهذا الاستخدام لا يعد فقط تكريمًا لوالده الذي كان له تأثير كبير في السينما المغربية، بل يعكس أيضًا تعلق يونس برموز الأسرة في حياته وأعماله.
ويبرز في أفلامه اهتمام كبير بربط أعماله الفنية بأسرته، سواء من خلال الإهداء المباشر أو الرموز الفنية التي يستحضرها في مشاهد متعددة. هذه اللمسات تعبر عن امتنانه وتأثره بعائلته، خصوصًا والده الذي يعتبره مصدر إلهام رئيسي في مسيرته الفنية، وهذا الربط الشخصي يتجاوز مجرد التقدير العائلي ليصبح جزءًا من هوية أفلامه، حيث يستخدم الركاب هذه الرموز لخلق نوع من التواصل الروحي بين الماضي والحاضر.
ويمكن اعتبار إدخال صورة والده في فيلم “404.01” استعارة رمزية للعلاقة بين الأجيال وتاريخ السينما المغربية، كما يعكس هذا الأسلوب تعلق الركاب بالجذور العائلية كعنصر أساسي في تكوينه الفني والشخصي، ويظهر هذا التعلق أيضًا في إهداءاته المتكررة لعائلته في أعماله السابقة، ما يعكس حالة من الوفاء الشخصي والاعتراف بتأثير العائلة على مساره المهني والفني، بالتالي “404.01” ليس عملا يختبر حدود الخيال العلمي في السينما المغربية فقط، بل هو أيضًا شهادة على ارتباط يونس الركاب بأسرته واستمرارية هذا الرابط عبر أعماله الفنية، وهو ما يضفي على أفلامه بعدًا عاطفيّا وشخصيا قويا.
ويتسم أسلوب المخرج يونس الركاب في فيلم “404.01” بتأثره الواضح بالسينما الأوروبية، خاصة في تصويره لمشاهد رياضة زوارق البحر، وهذا التأثر يظهر من خلال استخدامه زوايا تصوير واسعة تبرز جماليات المناظر الطبيعية والمحيط، وهو ما يميز كثيرًا السينما الأوروبية التي تبدي اهتماما كبيرا بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة. وهذه المشاهد تتميز بهدوء بصري وتركيز على التفاصيل، حيث يستخدم الركاب الحركة البطيئة واللقطات الطويلة لتعزيز الشعور بالرهبة والتحدي، ما يجعل المشاهد يعيش اللحظة وكأنه في قلب الحدث.
ويبرز تعامل المخرج مع رياضة زوارق البحر أيضًا فكرًا بصريًا يميل إلى المدرسة الأوروبية في بناء التوتر تدريجيًا عبر اللقطات المتقنة والاعتماد على الإيقاع البصري الهادئ بدلا من الإثارة السريعة، ويوظف الركاب الرياضة كرمز للصراع الداخلي والبحث عن الحرية، وهو ما يظهر بشكل بارز في السينما الأوروبية التي تعتمد الرمزية كأسلوب سردي.
ويضيف التركيز على البحر كفضاء مفتوح بُعدًا فلسفيًا يعزز الجو النفسي للفيلم، ويعكس قدرة الركاب على استخدام الفضاء الطبيعي كأداة لإيصال المعاني والدلالات العميقة، بما يتماشى مع تأثيرات السينما الأوروبية في أسلوبه الإخراجي.
ويبرز يونس الركاب استمرارية واضحة في أسلوبه الإخراجي بين فيلمه “404.01” وفيلمه السابق “الأوراق الميتة”، حيث يتميز كلا العملين بتوجه بصري وسردي مشابه يعتمد على استخدام الرموز والمواضيع العميقة التي تتناول الصراع النفسي والشخصي. وفي كلا الفيلمين يبرز الركاب في بناء توترات داخلية للشخصيات من خلال أحداث خارجية، ما يعكس اهتمامه بالمزج بين الواقع والخيال بطريقة رمزية.
ويعتمد الركاب في فيلم “404.01”، كما في “الأوراق الميتة”، على سرد معقد ومتشابك حيث تتداخل الأحداث والأفكار لتكوين حبكة درامية نفسية تُظهر الصراعات الداخلية للشخصيات، ويخلق أسلوبه في إدارة الكاميرا واستخدامه للإضاءة الداكنة والزوايا المبادرة إحساسًا بالتوتر والترقب، وهو ما يتطابق مع ما قدمه في “الأوراق الميتة”، حيث برع في إظهار العوالم الداخلية للشخصيات عبر الصور السينمائية المعبرة.
ويونس الركاب مخرج مغربي، من مواليد الدار البيضاء عام 1975. ينتمي إلى عائلة الركاب الفنية، ويعتبر فيلم “الأوراق الميتة” (2015) باكورة أفلامه السينمائية الروائية الطويلة. بعد دراسته في مدرسة متخصصة في السمعي البصري بالمحمدية عمل كمتدرب في عدة شركات إنتاج بالدار البيضاء قبل العمل مع المخرج علي شرف في عام 2000. وفي عام 2003 قرر يونس أن يطلق فيلمه الأول “خويا”، ثم أخرج العديد من الأفلام الأخرى منها “منتصف الليل”.