"برغم القانون".. دراما اجتماعية مصرية متقنة الصنع
الأعمال الفنية الجيدة، منضبطة الإيقاع مضبوطة الصنعة، ليست كثيرة، لكنها عندما توجد فإن المشاهد يُقبل عليها بشغف، دون حاجة إلى لجان إلكترونية تروج لها أو أصحاب مصالح يشيدون بها. لا يعني هذا أن أغلب الإنتاج الفني سيء، لكن الإتقان هدف صعب المنال، ولا يعني ذلك أيضا عدم وجود تساؤلات يمكن إثارتها برغم الصنعة المتقنة.
“برغم القانون” مسلسل اجتماعي مصري، يُعرض حاليا على قناة “أون” ومنصة “واتش إت” ويحظى بأعلى نسب المشاهدة ومتابعة المواقع الإلكترونية والمتفاعلين على السوشيال ميديا لأحداث حلقاته بشكل يومي.
المسلسل من بطولة إيمان العاصي، وهاني عادل، ومحمد القس، ومحمد محمود عبدالعزيز، ووليد فواز، وجوري بكر، ورحاب الجمل، وفرح يوسف، وإيهاب فهمي، ونبيل علي ماهر، وشادي مقار، وعايدة رياض، قصة ريمون مقار، تأليف نجلاء الحديني، وإخراج شادي عبدالسلام، من إنتاج شركة فنون مصر.
كذبة كبرى
منذ الحلقة الأولى، ينطلق السيناريو إلى هدفه من أقصر الطرق، دون تمهيد أو تطويل أو حشو، فالمحامية ليلى ابنة مدينة بورسعيد في مصر تستيقظ صباحا لتفاجأ بعدم وجود زوجها أحمد في البيت، وتفشل كل محاولات الاتصال به أو العثور عليه، فما الذي جرى؟
لا خلافات وقعت بينهما ولا مقدمات تقود إلى اختفائه، وهو ليس فقط زوجها ووالد طفليها إنما حبيبها العاشق المتيم، شهدت على قصة حبهما أمواج البحر في مدينة بورسعيد الجميلة وموسيقى السمسمية التي يشتهر بها أهل القناة وطيور الخير التي تحلق وتحط في الميادين الطيبة، فلماذا وأين يمكن أن يكون قد اختفى؟ محاولة الإجابة عن السؤال تقود ليلى إلى تفاصيل مذهلة.
في لحظة واحدة، يمكن أن يتغير وجه الحياة بالكامل، وأن ينحرف طريق المحبة إلى درب مغاير، عندما يكتشف الإنسان أنه يعيش داخل كذبة كبرى، وأن الحب والدفء والبيت والأسرة لم تكن جميعها سوى فقاعة هائلة قرر مَن صنعها على مهل لسنوات أن يفجرها ذات صباح بسن إبرة.
تكتشف ليلى أن زوجها الذي استمر اختفاؤه ليس اسمه أحمد من الأساس، وأن كل مستندات زواجها وميلاد ابنيها مزورة لا أصل لها. فكيف تثبت رسميا زواجها وهي من وثقت في حبيبها فلم تحتفظ بوثيقة الزواج برغم أنها رأتها معه؟ وكيف يستمر ابناها في مدرستهما دون شهادات ميلاد مثبتة في السجلات المدنية؟
كل شيء مزيف، وحياتها العامرة بتدليل زوجها وحنانه عليها ظهر أنها أوهن من بيت العنكبوت، الذي تاهت في ثناياه تتجاذبها خيوطه فتلتصق بها، تخنقها، تئدها حية، كحشرة صغيرة لا قيمة لها.
يكشف السيناريو سريع الإيقاع، للكاتبة المبدعة نجلاء الحديني، خلال حلقات قصيرة عن أن الزوج واسمه الحقيقي أكرم رجل أعمال شديد الثراء متزوج في القاهرة وله ابنان آخران، واضطر قبل عشر سنوات إلى الاختفاء في بورسعيد هربا من تنفيذ حكم قضائي ضده بعد أن تسبب في إصابة عين شقيق زوجته.
أقام أكرم أسرة جديدة، بعد أن عاش بشخصية أخرى، أحمد، صاحبها الحقيقي متوفى منذ زمن، حتى قرر في لحظة أن يمضي تاركا كل هذا خلفه، ويعود إلى حياته الأصلية بعد سقوط الحكم الصادر ضده.
هنا قد تبدو فترة السنوات العشر طويلة للغاية وغير منطقية، في ظل عدم معرفة زوجته الأولى بريهان أي شيء عنه خلالها، وعدم اتصاله بها برغم أنها تعرف دون تفاصيل قصة هربه، واستمرارها طوال هذه السنوات في محبته وانتظاره، وهي النقطة الوحيدة مثار التساؤل في المسلسل، لكن السيناريو ربما اضطر لها لمراعاة الفترة القانونية لسقوط الحكم القضائي بعد أن يصير نهائيا، كما حاول تبريرها بإظهار شخصية الزوجة بريئة أو أقرب إلى السذاجة، ما يجعلها قابلة للخضوع لزوجها بألاعيبه الماكرة وأكاذيبه التي لا تنتهي.
نجحت الفنانة إيمان العاصي نجاحا كبيرا في أول بطولة لها، وأظهرت باقتدار شخصية المرأة البورسعيدية التي تتمازج فيها الرومانسية والرقة مع الجرأة والقوة، فانتقلت بسلاسة بين وجهي الشخصية مع التحول الكبير الذي قلب حياتها، من المرأة العاشقة التي تنجح في إقناع أبيها بالزواج من حبيبها الغريب عن المدينة ولا يُعرف له أصل أو فصل، إلى الزوجة المغدورة المقاتلة في سبيل استعادة حقوق ابنيها من زوجها الذي يتنفس كذبا.
كما قدم الفنان السوري – السعودي محمد القس شخصية الزوج النصاب، الذي ينجح عبر الدمع أحيانا والرشوة والتزوير والحرق أحيانا أخرى في تحقيق مآربه، وخداع الجميع لبلوغ أهدافه الشخصية الأنانية، دون أن ينفي هذا أنه قد يحب بالفعل زوجتيه وأبناءه منهما، فالإنسان لا يمكن أن يكون ملاكا أو شيطانا في المطلق، لكن الأنا عند البطل كانت المحور الذي يدور حوله.
كل الممثلين أبدعوا بهدوء دون مبالغة أو افتعال في تقديم الشخصيات التي لعبوها، فجاء أداء وليد فواز لدور ياسر شقيق أخت البطلة تعبيرا عن السهل الممتنع، في تقديم شخصية البخيل الانتهازي المتناقض الذي يبرر لنفسه ما يفعله مهما بدا وضيعا، ما صنع الكوميديا بفعل بعض المواقف المغرقة في الانتهازية، وكذلك زوجته فاتن التي لعبت دورها رحاب الجمل القادرة بسلاسة على التعبير عن الشخصية التي تؤديها دوما، وبرغم التشابه بين بعض شخصياتها إلا أن ذلك لا يفقدها بريقها، ما يستحق أن يدفع المخرجين إلى إخراجها من مناطقها الآمنة عبر اختيارها لأداء شخصيات مختلفة.
الفنانة فرح يوسف، الزوجة الأولى بريهان، أجادت أيضا التعبير عن المرأة الخاضعة لسلطان أكاذيب زوجها كالمخدرة، ثم الانتقال بعد ذلك إلى لحظة الجنون الأنثوي عند اكتشافها زواجه بأخرى وإنجابه منها. كما عبر هاني عادل بأداء هادئ عن شخصية شقيقها الذي يخفي هدوؤه الظاهر غضبا مكتوما، ورغبة في الانتقام لأجل عينه الضائعة.
مفاجأة العمل هو محمد محمود عبدالعزيز بأدائه شخصية محمود صديق البطل، الذي قادته خديعة صديقه إلى اتخاذ مواقف لا تشبهه، حتى بدا كأنه شريك له في جرائمه، ما أمعن في اغترابه عن نفسه، إذ كان يحلم بأن يصبح مهندسا لكن الظروف دفعته إلى وراثة تجارة والده في بيع العصائر المرطبة، واغترابه حتى عن ملابسه التي لا يفتأ يعدِّلها كل حين، كما المواقف التي ألبسته الدنيا عباءتها وهي لا تناسبه.
وأدت جوري بكر دور الصديقة المحامية الكبيرة في بورسعيد لتعبر بسلاسة عن شخصية زميلة الدراسة المحملة بميراث الحقد على البطلة زميلتها النابهة قديما، وإن كانت تُظهر مساعدتها بضمها إلى العمل في مكتبها.
وحتى الشباب الصغار والأطفال، الممثلون جاسيكا حسام الدين ومازن علوان وريما مصطفى وسليم يوسف وحور أحمد وآدم هاشم وإيلينا، أدوا أدوارهم المكتوبة بإتقان كأنهم ممثلون محترفون منذ زمن.
وجاءت إحدى نقاط القوة والجمال في المسلسل متمثلة في مشاهد التصوير الخارجي الكثيرة إذ نقلت الكاميرا صورا جميلة من مدينة بورسعيد والحياة فيها، شوارعها وميادينها، والمعدية الشهيرة بها، التي تعبر بالبشر إلى المدينة القريبة منها بورفؤاد. وتلك مسألة مهمة بدأ صناع المسلسلات المصرية يلتفتون إليها كثيرا، تعبيرا عن عبق الجغرافيا وروح المكان في البيئات المتنوعة داخل المدن بمصر.
ولعبت موسيقى مصطفى الحلواني دورا بارزا في نقل الفكرة الدرامية، سواء في مشاهد الحزن والألم أم الصدمة والمفاجأة، ما منح العمل أبعادا أعمق وإيقاعا متنوعا متغيرا بتغير حيوات الشخصيات عبر المشاهد.
حقائق قليلة وزيف طاغ
قاد شادي عبدالسلام مخرج مسلسل “برغم القانون” أوركسترا الإبداع، مهتما بكل تفصيلة، من الأداء والتعبيرات والانفعالات إلى الملابس والإضاءة والديكورات، بل إن اختيار مقدمة المسلسل “التتر” كان بطريقة الغرافيك الذي جاء متناغما مع الدراما والفكرة الأساسية فيها، فالحقائق قليلة والزيف طاغ، والاصطناع هو الغالب في الحياة، التي بدت كأوراق الأشجار والأموال المتطايرة في خلفية صور الشخصيات في التتر المعبر.
وبينما علق البعض على تشابه البوستر الدعائي “الأفيش” لمسلسل “برغم القانون” مع نظيره في مسلسل “تحت الوصاية” بطولة منى زكي الذي أذيع قبل أقل من عامين، ما أوحى بتشابه الفكرة على خلاف الحقيقة، نفت الفنانة إيمان العاصي ذلك معلنة أنه تم تصوير ثلاثة بوسترات.
ونرى أنه كان من المناسب اختيار أفيش مختلف، لاسيما أن أحد الأفيشات الثلاثة التي تم تصويرها هو الأجمل والأكثر تعبيرا عن فكرة المسلسل، وفيه تظهر البطلة وطفلاها من زاوية تصوير علوية نائمين متلاصقين في سريرهم، كالمصابين أو الموتى، ليعكس ذلك تأثير الجراح التي أثخنتهم.
◄ موسيقى مصطفى الحلواني لعبت دورا بارزا في نقل الفكرة الدرامية، سواء في مشاهد الحزن والألم أم الصدمة والمفاجأة، ما منح العمل أبعادا أعمق وإيقاعا متنوعا
ويبقى أن نقول إن بعض التحليلات والقراءات النقدية اعتبرت أن المسلسل يهدف إلى الدفع في اتجاه تغيير قوانين بعينها سعيا إلى رفع الظلم المجتمعي الواقع على المرأة. كما رأت لجنة الإعلام في المجلس القومي للمرأة برئاسة الأكاديمية سوزان القليني أن العمل “يناقش العديد من القضايا وفي مقدمتها العنف المادي والمعنوي ضد المرأة وتحكم الرجل فيها ماديا، وهروب الأزواج وتحمل الأم والزوجة مسؤولية الأطفال وإعالتهم وتربيتهم”، وفقا لبيان اللجنة.
لكننا للحقيقة نرى أن الفكرة الأساسية في المسلسل قد تكون أبعد من ذلك وأعمق، فالعمل لم يركز كثيرا على أوضاع قانونية مختلة ينبغي تغييرها، إذ لا تعديلات يمكن أن تسمح باستخراج شهادات ميلاد لأطفال من أب كل أوراقه الرسمية مزورة ولا وجود لها في السجلات، وحتى لو حاولت البطلة الحصول على حكم قضائي بنسب ابنيها لأبيهما ما كانت ستنجح لأن شخصية الأب في الأوراق الرسمية ليست حقيقية أصلا، إذ سيتضح تزوير بطاقته الشخصية بالكشف عليها. كما أن الظلم والخديعة والكذب لا جنس لها، ذكرا أم أنثى، والحالات عديدة على الجانبين هنا وهناك.
المسألة ليست قوانين أو رجالا أو إناثا، المسألة أن الإنسان هو الأساس، والقانون فرع عن الأصل. الإنسان من يضع القوانين وهو من يقرر أن يلتزم بها أو يتحايل عليها ويخترقها، بالرشوة والفساد والاستغلال.
حقا إن القانون ضامن وحاكم، ويمكن تغييره دوما إن لم يكن قابلا لإصلاح أحوال المجتمع، لكن من يضمن النفس البشرية ويكبح جماحها؟ ومن يستطيع إصلاحها ويوقف تلاعبها؟
القوانين وحدها لا تكفي، فالشر لا يعدم الطرق “برغم القانون”، إنما التربية أساس، فالتربية والقانون معا صنوان ضروريان، لا يفترقان، حتى يصير احترام القانون ثقافة عامة، يُنبذ من يخرج عليها مجتمعيا أولا قبل معاقبته قانونيا، ولا يتم اعتباره بطلا أو قويا أو قادرا على النفاذ.