أخبار وتقارير

"عدن قبلة الثوريين والتقدميين العرب".. أسرار يكشفها الرئيس علي ناصر محمد


       

بعد  ان تحدث الرئيس علي ناصر محمد الحلقات الماضية  عن المؤتمر الإسلامي في مدينة لاهور الباكستنانية، و مؤتمر القمة الإسلامي في الطائف عام 1981م .. اليوم ينقلنا إلى حدث جديد وهي الثورة الفلسطينية وحركات التحرر الوطني ..نترك الحديث للرئيس ناصر وهذا ما قال :" كان من بين أبرز السياسات التي رسّختها جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بعد انتصار الثورة وقيام الدولة عام 1967م، دعم حركات التحرر الوطني، وتبني قضاياها، واحتضان رموزها وأطرها وتقديم كل أشكال الدعم المعنوي والمادي والإسناد، والتضامن معها. وكانت الدولة الوليدة تنطلق في الأساس من إيلاء اهتمام خاص للحركة الوطنية في صنعاء ورفدها بكل أشكال الدعم. و أبدت الجمهورية الوليدة في هذا السياق الاهتمام بدعم قضايا الشعوب العربية بدءاً بالجوار، ثم اتسعت دائرة التضامن لتشمل سائر البلدان العربية في الخليج وبلاد الشام والقرن الإفريقي، مروراً بدعم حركات التحرر ومساندتها في جنوب إفريقيا وزامبيا، وانتهاءً بالحركات التحررية في البلدان الأبعد عن قوس البلدان المحيطة باليمن، زابو وزانو في روديسيا زيمبابوي، وحركات التحرر في نيكاراغوا والسلفادور، وحركة التحرر في الفيليبين وفيتنام. كانت سياسة التضامن التي انتهجتها بلادنا سياسة عملية، ولم تكن محض بيانات ولقاءات بروتوكولية في الصحافة ووسائل الإعلام، بل تجلت وتجسدت بتقديم كل أشكال الدعم الملموس وأكثرها فاعلية وتأثيراً، بدءاً بالمال وجوازات السفر، واستقبال الطلبة للالتحاق بمختلف مؤسسات التعليم والمعاهد العلمية للحزب، وإيواء الفارين من الإرهاب وتوفير مستلزمات عيشهم، وتقديمهم إلى المحافل والمنظمات الدولية، وصولاً إلى تقديم السلاح وإقامة المعسكرات والتدريب فيها. لم تكن قيادة الحزب والجمهورية تدّخر وسعاً لحماية ضيوفها المناضلين والدفاع عنهم، حتى إذا أدى ذلك إلى الاختلاف مع أنظمتهم ودولهم، كما جرى في حادثة أستاذ جامعة عدن العراقي توفيق رشدي الذي تعرض للخطف والقتل على أيدي رجال المخابرات العراقية. ولم يكن ذلك بمعزل عن الهيبة التي اكتسبتها الجمهورية وقيادتها، التي كانت تكمن في التفاف جماهير الشعب حولها، وكذلك الدعم والتضامن والإسناد الذي حظيت به من قبل كل قوى التحرر والتقدم والاشتراكية في العالم.

 

عدن قبلة الثوريين والتقدميين العرب

 

ويستدرك الرئيس ناصر قائلا :" فأصبحت عدن قبلة الثوريين والتقدميين العرب على اختلاف انتماءاتهم وميولهم السياسية والفكرية، ما حمّل الجمهورية الفتية أعباء كانت تفوق إمكاناتها وطاقاتها المحدودة. بهذا المعنى، كانت الجمهورية التي لم تكن بالمعيار والاستراتيجية التقليدية دولة تشكل وزناً استثنائياً، تتحول بفعل السياسة الثورية والدور الريادي، إلى دولة ذات موقع استراتيجي على الخريطة السياسية، يثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها، ما دفعهم إلى العمل بكل الوسائل لمحاصرة الجمهورية وإثارة القلاقل حولها، وحبك النشاطات العدوانية، بما فيها العسكرية لوأد الجمهورية، وتصفية نظامها التقدمي. وغدت اليمن الديمقراطية، وفقاً لمنظور الولايات المتحدة، خطراً على منطقة مصالحها الحيوية في الخليج، حتى وصفها محمد حسنين هيكل بـ«الدولة المشاغبة» في المنطقة العربية والبحر الأحمر! وكذلك رأت فيها أنظمة عربية محافظة «دولة إرهابية» تهدد أمن المنطقة ومصالح الغرب في باب المندب والبحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب وجزيرة العرب ومخزونها النفطي الهائل.

 

أميركا لم تسمح لعدن بتجاوز حدودها

 

ومضى  الرئيس ناصر يقول :" وقد عبّر الملك فيصل مختزلاً ذلك كله: «إننا لن نسمح لهذا النظام بإشعال الحريق في خيمة شبه الجزيرة العربية»! وهددت أميركا بأنها لن تسمح هي الأخرى لعدن بتجاوز حدودها والتلاعب بأمن المنطقة والمصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها. وقد شهدت الأوضاع حول اليمن الديمقراطية المزيد من التأزم والتعقيد بعد الاعتراف بجمهورية ألمانيا الشرقية، حيث وجهت اتهامات صريحة بانخراط عدن في فلك الأنظمة الشيوعية، واتخذت هذه الاتهامات المشفوعة بالوعيد طابع نشاطات عسكرية على حدود البلاد مع صنعاء والرِّياض وعُمان، حيث تكدست مخازنها بالسلاح وشرعت في تحركات عسكرية، وسُخِّر الإعلام المعادي من خلال وسائله للتحريض على الجمهورية وقيادتها والدعوة لزعزعة النظام وإطاحته، ومحاصرته اقتصادياً وسياسياً على المستويين العربي والدولي.

 

غير أن كل ذلك اصطدم بجبهة شعبية داخلية متماسكة في الجنوب التفّت حول قيادتها، وبالتضامن العربي الذي ضمّ كل القوى والأحزاب والأوساط السياسية المتعاطفة التي وقفت بحزم مع اليمن الديمقراطية وضد الهجمة الخارجية عليها، وتحولت حركات التحرر في شمال اليمن والخليج والمنطقة العربية عموماً إلى سياج وخط دفاع أمامي لها. لم تعد الجمهورية الفتية تخشى هذه القوى مجتمعة، بعد أن حصّنت نفسها داخلياً بالتفاف شعبي حولها، ووفرت خطوطاً دفاعية لها داخل البلدان المجاورة، وعززت تحالفاتها على الصعيد العربـي ومع حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث أصبحت عدن مركز التقاء لطموحات هذه القوى، ومصدراً لقوتها وداعماً نزيهاً لها دون شروط وبلا مقابل أو تدخل في شؤونها، وكانت المساعدات المالية رمزية وفقاً لإمكانات البلد الشحيحة مقارنة بما تقدمه اليوم الأنظمة من المليارات للمعارضة لإفسادها وتدمير أوطانها وشعوبها.

 

عدن مركز جذب للقوى والأحزاب

 

ويتابع الرئيس علي ناصر حديثه وقال :" خلال هذه المرحلة التي أصبحت فيها عدن مركز جذب وتضامن لكل القوى والأحزاب والمنظمات العربية والإفريقية المعارضة لأنظمتها، شهدت المنطقة العربية والإفريقية تغيرات عاصفة في العديد من البلدان العربية، فقبل كل شيء لم يكن هذا الدور الذي تمارسه عدن بمعزل عن غياب دور مصر عبد الناصر، وعزلتها التي فرضتها على نفسها بعد اتفاقية كامب ديفيد، وملاحقتها معارضي سياستها الجديدة من المثقفين والشخصيات السياسية البارزة الذين لجأ بعضهم إلى عدن وعمل في مؤسسات البلاد الإعلامية والمالية وغيرها. كان من بين هذه الشخصيات مصطفى طيبة وأحمد الرفاعي ومحمد أبو مندور وزكي عمر. واضطر آخرون إلى الانتقال إلى ليبيا والعراق وبلدان الخليج والبلدان الأوروبية كلندن، وفي مقدمتهم الولد المشاغب محمود السعدني الذي عمل في بغداد ولقي صعوبات جمّة هناك، وكان يردد مقولة توفيق الحكيم: «لقد انتهى عصر القلم، وابتدأ عصر القدم» في إشارة منه إلى عدم الاهتمام بالكتاب والمثقفين والمفكرين الذين لا يحصلون إلا على الشيء البسيط من مؤلفاتهم، بينما لاعب كرة القدم يحصل على مئات الآلاف من الدولارات، بل الملايين.

 

معركة القرن الأفريقي

 

واستطرد  الرئيس ناصر في حديثه وقال :" وكانت الصومال على الضفة الأخرى من خليج عدن تطحنها حربها مع إثيوبيا لاستعادة منطقة أوغادين التي يطالب بها الرئيس محمد سياد بري، بحجة أنها صومالية وأنه ولد فيها، وتفاقم خلافه مع فرنسا حول مستقبل جيبوتي التي استقلت عام 1977م، والتي كان يريد ضمها إلى الصومال لتشكيل الصومال الكبير ومشروعه لتحقيق وحدة بين الصومال واليمن وجيبوتي. وانتقل سياد بري في مجرى هذه الصراعات والحروب من أقصى اليسار الماركسي إلى أقصى اليمين، ومن موقع الحليف الاستراتيجي لموسكو إلى موقع المناوئ لها وللماركسية، فطرد الخبراء السوفيات على غرار السادات، ومزق صور ماركس ولينين التي كانت تغطي معسكراته، وأغلق ميناء بربرة في وجه الأساطيل السوفياتية وحرمها التسهيلات التي كانت تتمتع بها. وكان السفير الصيني في عدن قد تحدث معي، قائلاً إن الماركسية التي يتحدث عنها سياد بري جاءت بتوجيهات من الكرملين من أجل الحصول على المساعدات السوفياتية، ولا تعبّر عن موقف إيديولوجي للجنرال سياد بري.

 

وواصل الرئيس ناصر قائلا :" وقع على عدن عبء احتضان معارضي سياد بري وتقديم الدعم العسكري لنظام منغستو هيلا مريام في حربه مع سياد بري، بعد إخفاق وساطات عدن وكوبا وموسكو. غير أن سياسته المغامرة تلك أدت إلى هزيمته وتقسيم الصومال، ووضع البلاد تحت رحمة تجار الحروب في الشرق والشمال والجنوب، واضطرت عدن للمرة الثانية إلى احتضان أكثر من أربعين ألف لاجئ من أبناء الصومال الهاربين من أتون حرب القبائل التي أكلت الأخضر واليابس.

 

علي عنتر وزابو وزانو

 

ويستدرك الرئيس علي ناصر ويقول :"في هذا السياق أذكر أن وفداً من حركة زانو برئاسة موغابي زار عدن لتلقي الدعم بتوصية من منغستو، وكُلفَ علي عنتر بوصفه وزيراً للدفاع التباحث معهم في سبل المساعدات المطلوبة وحدودها، فطلب الوفد أسلحة ثقيلة، وطلب نقلها بالطائرات لإلقائها في أدغال روديسيا جواً وبالمظلات. فوجئ علي عنتر بهذا الطلب، فاتصل بي مبدياً استغرابه من طروحات الوفد وكيفية تلبية طلباتهم، فعدن ليست دولة عظمى وطائراتنا لا تستطيع تغطية أجواء البلاد، فكيف لها أن تصل إلى أدغال روديسيا! ثم سأل عن موقع زانو وزابو وفي أي قارة تقعان!

 

المنظمات الفلسطينية والحركة اللبنانية

 

ويتابع حديثه مستطردا  وقال :" تحولت عدن في أواسط الثمانينيات إلى قلعة لحركات التحرر، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عدن كانت تتعاطى مع حركات التحرر في كل شؤونها وفي أشكال دعمها عبر قيادة الحزب الاشتراكي اليمني وأجهزته، وليس عبر أجهزة المخابرات والأمن، كما هو قائم في البلدان الأخرى. ولم يكن مركز عدن التضامني المتقدم بمعزل عن علاقاتها وتحالفاتها المتينة بالاتحاد السوفياتي وبلدان المنظومة الاشتراكية وبلدان حركة عدم الانحياز.

 

هذه المواقف المبدئية في تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ومواقفها لم تقابل دائماً بالعرفان وبمستوى من التفاعل والفهم والتضامن ينسجم مع متطلبات تعزيز مسيرتها الثورية والارتقاء بدورها والإسهام في تطويرها وترسيخ مواقعها. فقد مارست بعض القيادات الفلسطينية أحياناً دوراً مسيئاً إن لم يكن تخريبياً في الحياة الداخلية وفي صفوف الحزب الاشتراكي وقيادته، وحاولت اللعب على الصراعات داخل القيادة اليمنية، والسعي لاستمالة هذا الطرف أو ذاك إلى جانبها لتحقيق غرضين متلازمين:

 

كسب مزيد من الامتيازات والمكاسب في عدن بوقوفها إلى جانب هذا الطرف في الصراعات أو ذاك.

 

إثقال اليمن الديمقراطية وقيادتها السياسية والحزبية بالصراعات الخاصة بهذه المنظمات فلسطينياً وعربياً وترجيح كفّة إحداها عبر كسب ولاء جزء من القيادة.

 

لقد أدت هذه التدخلات الفظة غير الودية من جانب بعض هؤلاء إلى تأجيج الصراعات داخل القيادة وتفجرها، مما أسهم في فقد قيادات متتالية: سالم ربيع علي، عبد الفتاح إسماعيل، وانا ، و علي سالم البيض... إلخ.

 

احتفال الثورة الفلسطينية 1983م في عدن

 

ويردف الرئيس علي ناصر  في حديثه قائلا :"  كان هناك دوماً عامل فاعل في تفكيرنا بالنسبة إلى المستقبل، وهو أن الثورة الفلسطينية ستكون ضعيفة مهما بلغت من القوة من غير محيط عربي سليم يؤازر نضالها، ويساعدها على تجاوز ما تمر به من آلام ومصاعب. وتحدثنا بهذا الشأن مع «ياسر عرفات»، قائد الثورة الفلسطينية في يناير عام 1983م بمدينة عدن. كان عرفات يجلس إلى جانبي على المنصة الرئيسة في ساحة الاستعراضات بخور مكسر في الاحتفال الكبير الذي أقيم بمناسبة الذكرى «السابعة عشرة» لانطلاقة الثورة الفلسطينية. كان أول احتفال للثورة يحضره عرفات بعد خروج المقاومة من بيروت. وفي الطريق إلى المهرجان مع السيد ياسر عرفات تحدثت معه حول العلاقات مع سوريا الذين كانوا منزعجين من هذا الاحتفال ومن هذا الحشد الكبير ونصحته ان يشير في خطابه إلى العلاقات مع سوريا ولكنه كان متردداً بل منزعجاً من الموقف السوري بعد ان توزعت قواته في اليمن وتونس وغيرها من البلدان، وقال اكراماً لك سوف اتحدث عن العلاقة مع سوريا، واورد هنا بعضاً مما جاء في خطابه:

 

«هذا اليوم الذي نحتفل فيه في عدن الثورة عدن الشموخ عدن الكبرياء يا أخي علي ناصر أننا نجسد هذا المعنى الثوري وهذا التلاحم الثوري الذي يجمعنا ثوارً وأحرار على ارض اليمن على الشطر الجنوبي من اليمن..

 

يا أخي ويا رفيق دربي نحتفل الان وتحت هذه الرعاية وهذا القلب الذي ينبض ثوريةً ودفءً وشموساً ونوراً نحتفل لكي نرسلها من عدن الثورة إلى كل بقعة من بقاع وطننا العربي

 

قال عبدا لناصر وجدت لتبقى وجدت لتنتصر نعم أقول لهم هذا وان المعركة ما حدث في بيروت وما حدث في جنوب لبنان ما هي ألا بداية المعركة والمعركة سجال.

 

يا أخواني ما حدث في بيروت لم يكن معركة عادية وما حدث في لبنان وما هو جاري في لبنان وما يجري في لبنان أنما هي مؤامرة أميركية في الان وأكثر من أي وقت مضى علينا أن نكون حذرين وحريصين ومتنبهين لان المؤامرة مستمرة القوات الأميركية التي قرر ريجن زيادتها في لبنان هي جزء لا يتجزأ يا أخي علي ناصر من هذه المناورات للأسطول السابع والأسطول الخامس على شواطئ اليمن الديمقراطي أو في جوار شواطئ اليمن الديمقراطي هي حلقة متراصة وحلقة متتابعة وحلقة متصلة.

 

خرجنا من بيروت بدو المشيعين وما أكثرهم في المنطقة انه في خلاف فلسطيني سوري أنا بقول العلاقة السورية الفلسطينية ثابتة ثبوت هذه الجبال اللي أمامكم مافيش حاجه تهزها. -ومن الخلف علق القيادي الفلسطيني عبد المحسن ابو ميزر وهو مقرب من النظام في سوريا بقوله « كلمة سوداء» وضحك البعض.

 

وواصل الرئيس ناصر  حديثه وقال  :" حضر الاجتماع الذي عقد في دار الضيافة، ياسر عرفات وجورج حبش، ونايف حواتمة، من الفصائل الفلسطينية. كما حضره عبد الغني عبد القادر، مسؤول العلاقات الخارجية في حزبنا مندوباً مراقباً. ولم أحضر هذه الاجتماعات التي خصصت كما خطط لها لمناقشة أوضاع الحركة الفلسطينية الراهنة بعد المستجدات الناجمة عن خروج المقاومة من بيروت عام 1982م.. وآفاق مستقبلها. وقد اتفقوا على أن يبقى هذا اللقاء سرياً.. وأكدوا لنا أنه إذا تطلب الأمر، فإننا في اليمن الديمقراطية يمكننا الحديث عن البيان الذي سيتفق عليه في ختام الاجتماع. وقد احترمنا رغبتهم. وكان أملنا أن الاجتماع سيدعم الخطوط العريضة لمستقبل العمل الفلسطيني، لهذا لم نسأل عن التفاصيل أو برنامجهم السري، وكان هذا نتيجة الثقة التي تولدت داخلنا واحتراماً للثورة الفلسطينية وخصوصيتها، بصرف النظر إذا ما كانت قراراتهم ومواقفهم توافقنا أو لا توافقنا.. كانت الجراح الفلسطينية العميقة تحثنا للدفع بكل الجهود الممكنة للتغلب على آلامها وتقوية لُحمتها، ولم نكن نهدف لتعميق هوة الخلافات في صفوف حركة التحرير العربية، أو بين الأطراف الفلسطينية وأية دولة عربية شقيقة ولم نكن طرفاً في أي خلاف من هذا النوع.

 

السر عند الفلسطنيين

 

ويكمل الرئيس ناصر ويقول :" مع أننا احترمنا طلب الأطراف المجتمعة.. بالإبقاء على الموضوع سراً، إلا أنهم أول من كشف عن ذلك للقيادة السورية وللسفارة السوفياتية في عدن. وقد قال لي السفير السوفياتي فيلكس فيتدتوف بأنه إذا أردت أن ينتشر خبر ما بشكل سريع فبح به إلى الفلسطينيين، وقل لهم إن هذا سر يجب عدم البوح به، ستجده في اليوم التالي منتشراً على كل لسان!

 

التزمنا الصمت حول الموضوع، إلا إنني عندما وصلت إلى دمشق بعد أسبوع من ذلك اللقاء والتقيت الرئيس السوري حافظ الأسد، وكان لقاؤنا الأول بعد الاجتماع المشار إليه فاجأني بما لم يكن في حسباني. فقد كان يعرف تفاصيل ما دار في الاجتماع، وأخذ يحدثني عن « المحضر السري « الذي انبثق عنه ذلك اللقاء.

 

قلت له: ربما تقصد البيان؟

 

لكنه عاد وأكد: لا.. المحضر السري.

 

كررت: تقصد البيان.

 

الأسد يسم الأمر

 

ويستدرك الرئيس علي ناصر حديثه وقال :" لكن الرئيس الأسد حسماً للأمر، سلمني نسخة من المحضر « السري « وكانت القيادة السورية قد حصلت على كافة المعلومات الموثوق بها عن ذلك الاجتماع من أحد تلك الأطراف الفلسطينية. كان الموضوع محرجاً لي. شرحت للرئيس الأسد، بأنني لم أكن مطلعاً على كافة تفاصيل الاجتماع أو المحضر السري لأنني اعتبرته شأناً فلسطينياً، وكانت تهمني بدرجة أساسية وحدة الفلسطينيين في نضالهم ضد العدو الصهيوني.

 

وقد وفرت لي علاقتي الطويلة بالرئيس الأسد على مدى سنوات، فرصة للتعبير عن آرائي بحرية وصراحة ووضوح. وكان هو من الصنف المنصت جيداً لآراء الآخرين، وكانت تربطني به دائماً علاقة صداقة ومودة. وقد حرص كلانا على تنمية العلاقات الطيبة بين البلدين.. وكان الرئيس الأسد يعرف مدى حرصي الشديد على علاقات طيبة ومتميزة بين سورية ومنظمات الثورة الفلسطينية، لهذا توقعت أن أجد تفهماً عنده لموقفي.

 

وأحسب أن الرئيس الأسد بحصافته ونظرته الثاقبة وإيمانه العميق بالقضايا العربية قد قدر وتفهم حينها جهودي وموقفي ذاك.. والوضع الذي وضعتني فيه ظروف احترامنا للقضية الفلسطينية وحساسيتها الخاصة جداً. وكانت هناك مصداقية ألزمنا بها أنفسنا وثورتنا في التعامل مع الفلسطينيين بمختلف فصائلهم، وهي أن يعتبروا اليمن الديمقراطية بلدهم، يتحركون فوق أرضها بحرية، ويمارسون نشاطهم باستقلالية تامة. وكنا جادين وصادقين في هذا التعامل برغم تعقيداته بسبب ظروف المنطقة. ولم يكن هناك سوى استثناء وحيد أبلغناه لإخوتنا الفلسطينيين وهو ضرورة احترام علاقاتنا بالدول العربية، وعدم الإساءة إلى أحد انطلاقاً من اليمن الديمقراطية. وقد وثقنا بأنهم يحترمون ويقدرون ذلك. وكانت هذه العلاقة مع الجميع هي التي جعلتنا مقبولين للقيام بالدور التوفيقي، إذ لم تكن لنا خصومة سياسية مع أحد من فصائل الثورة الفلسطينية.

 

سوريا وقضية فلسطين

ويتابع الرئيس ناصر  حديثه قائلا :" هذه الحادثة وغيرها، دلّت على أن القيادة السورية، كانت على دراية كبيرة بكيفية التعامل مع الأحداث، وخصوصاً القضية الفلسطينية، وقضية الشرق الأوسط، وأعترف هنا بأن الرؤية السياسية السورية، وخصوصاً رؤية الرئيس حافظ الأسد قد تميزت دوماً ببعد النظر. وقد قام بدور عظيم ونبيل في سبيل القضية الفلسطينية والقضايا العربية العادلة، وتعامل بصدق ومسؤولية مع تعقيدات أوضاع حركة المقاومة الفلسطينية وبإدراك وإطلاع واسعين. وكان على دراية كاملة بتفاصيل الأوضاع الفلسطينية وكيفية التعامل معها بحكم المعايشة اليومية، القريبة والمباشرة للأحداث، على نقيضنا نحن في اليمن حيث كان تعاملنا أقرب إلى المثالية المحكومة بعواطفنا غالباً باعتبارها قضية مقدسة، لكن هذا لا ينفي التعامل المبدئي الصادق والحريص على وحدة صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية في الحالتين.. مع فارق الظروف، ظروف المعايشة والاحتكاك والجغرافيا التي لم تكن متاحة لنا في اليمن.

 

سيفتح الباب إلى البيت الابيض

 

واشار الرئيس علي ناصر  قائلا :" وكان من ضمن ما ورد في ذلك المحضر السري، إعطاء صلاحيات ومرونة حركة واسعة لياسر عرفات مع بعض الدول مثل اليابان، وكندا، والنمسا، وبعض البلدان الأوربية لتعزيز علاقات الثورة الفلسطينية بهذه الدول.. وذلك في مقابل تعيين بعض ممثلي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج. بالإضافة إلى بعض الاتفاقات السياسية والتنظيمية التي جرى التوقيع عليها بين المنظمات التي شاركت في لقاء عدن الصغرى حسبما أبلغني به مسؤول العلاقات الخارجية لحزبنا عبد الغني عبد القادر الذي حضر الاجتماع بصفة مراقب..

 

وقد علق الرئيس الأسد على هذا المحضر قائلاً: - إن هذا الاتفاق، سيفتح أمام عرفات الباب واسعاً للتحرك حتى البيت الأبيض وتل أبيب !!

 

لعل ما حدث بعد ذلك في « أوسلو « يفسر المخاوف المشروعة التي كان يراها الرئيس الأسد منذ ذلك الحين.. وهو ما يسوّغ الاستياء السوري من ذلك الاتفاق.. وأتذكر أن الرئيس الأسد علق فيما بعد على اتفاق أوسلو السري، بأن كل بند في هذا الاتفاق بحاجة إلى اتفاق آخر.

 

فالشيء المنطقي في علاقة تكون سورية أحد أركانها الأساسية في منطقة حساسة كالشرق الأوسط، وفي القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، أن تتم معالجة الأمور بالتشاور والتفاهم والتنسيق معها، وإخضاع كل المتغيرات لصالح القضية المشتركة التي يعمل الجميع من أجلها.

 

معروف عن سورية أنها تقف في صدارة الدول العربية التي تعمل من أجل القضية الفلسطينية، وتتصدى لكل محاولات تصفيتها، كما أنها من جانب آخر تتصدى لحل تعقيدات المسألة اللبنانية، وتقف في مواجهة إسرائيل على أكثر من جبهة، وتسعى لتحقيق التوازن الاستراتيجي معها، ومن غير سورية يستحيل حرب أو سلام. ولذلك كانت قناعتنا أن أي تحرك لا تشترك فيه سورية والمقاومة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية يلحق ضرراً بهذه القضية. ولأن ذلك كان مفهوماً لنا تماماً، ولم يكن غائباً عننا، وكنا في اليمن الديمقراطية نمارس دورنا على أساس من تلك القاعدة. ولكن الآخرين ممن لم يدركوا هذه الحقيقة كادوا يرغموننا على دفع ثمن عدم الإدراك هذا لولا حكمة القيادة السورية.