أخبار وتقارير

قصة نجاح السفير الفقمي.. من الصيد للدبلوماسية


       

تحمل رحلة سعادة السفير محمد الفقمي، نائب المندوب الدائم لليمن في الأمم المتحدة بجنيف في سويسرا، تحديات ونجاحات.

 

بدأت على ساحل البحر عاش الفتى محمد كأقرانه من فتية القرية...ينتمي لأسرة من ذوي الدخل المحدود عادية وبسيطة... ولد لأب صياد يمتهن البحر ومنه يكسب رزقه... أن تكون ولدا لأب صياد وفي قرية تعانق امواج البحر أسوار منازلها فهذا يعني ان جزء من حياتك لابد من أن يتطبع بطباعها... كولد صغير صناعة قارب معدني من علب الحليب وعمل شراع له كانت مقدمة لإعداد شاب سيتخذ من البحر يوما وسيلة لكسب الرزق.

 

كبر ذلك الولد وصار شابا تربطه علاقة حميمية مع البحر... وعلى متن قارب (( هوري أبو نفر)) كان يصنع في ذلك الزمان من الخشب ولا يتسع لأكثر من راكبين فقط مع مجداف وشراع ينصب في وسطه مارس ذلك الشاب اليافع هوايته المحببة في صيد السمك...كان حريصا على ذلك في الاجازات الصيفية..

 

درس الابتدائية في المدرسة التي كانت في عقبة فقم (( موقع مؤسستي الملابس والراشن فيما بعد)) والتي كان على رأس إدارتها حين ذاك الأستاذ/ طه غانم (( الشخصية الاجتماعية والسياسية المعروفة والذي شغل منصب محافظ محافظة عدن في فترة سابقة))... وكان من ضمن دفعته في الابتدائية الاستاذ/ ناصر داده والاستاذ/ جواد ثابت رحمة الله عليه... والاستاذ/ عبدالحميد  علي احمد والكابتن/ مالك برداحه والأخ/ ناصر علي احمد... عندما انهى محمد الإعدادية التحق بمعهد دار المعلمين رافقه في ذلك زملائه (( ناصر / عبدالحميد / جواد الله يرحمه) في تلك الفترة كانت قطاعات التربية والتعليم والصحة من القطاعات المفضلة لشباب المناطق الساحلية... بعد إنهاء الدراسة في المعهد توظفت المجموعة كمعلمين وتم توزيع البعض منهم في مدرسة ((17 أبريل الموحدة..فقم حاليا)) بينما كان توزيع الشاب/محمد  في مدرسة 26 سبتمبر في البريقه كمعلم لمادة الانجليزي... لم يكتفي ذلك الشاب بشهادة المعهد التي تحصل عليها بعد تخرجه... طموحه وأحلامه لا يمكن كبح جماحهما بمجرد شهادة متوسطة ووظيفة معلم في مدرسة أبتدائية... لظرف ما انتقل إلى مدرسة الشهيد (( القحي)) الواقعة في قرية عمران في العام 80/79.

 

بدأ التفكير بضرورة الأستمرار بتأهيل ذاته وتطوير قدراته وتحقيق طموحاته مهما كلفه ذلك من تعب ومشقة وجد واجتهاد...تقدم حينها بطلب الدراسة الجامعية على اعتبار أن لديه شهادة من معهد تربوي كدار المعلمين... رفض طلبه تحت مبرر أن هناك أعدادا هائلة من خريجي الثانوية العامة ولهم الأولوية... لم ييأس... همة الجبال المختزنة في وجدانه وتفكيره جعلته يتقدم بطلب الإنتساب لإمتحان الثانوية العامة (( الإمتحان الوزاري))... فترة المذاكرة والإستعداد لذلك كانت تحتاج لنوع من الهدوء والعزلة... في البحر وعلى متن ذلك القارب الصغير وبوجود معدات الاصطياد كالوتر والهوك والطعم كانت تتواجد الى جانبها أيضا المراجع الخاصة بإمتحان الثانوية... كل رمية وتر في قاع البحر وانتظار ما يكتبه الرزاق من رزق كانت توفر مساحة زمنية يستغلها ذلك الشاب للمراجعة والإستذكار... البحر والقارب والصياد والصيد ومعدات الاصطياد بالمزامنة مع الكتب الدراسية لوحة تثير اندهاش العابرين الذين كلما رأوا ذلك المشهد زاد احترامهم وتقديرهم لذلك الشاب المجتهد والمكافح... تقدم محمد لإمتحان الشهادة الثانوية وأنتظر نتيجة جده واجتهاده... المذياع كان حاضرا في منزل الأسرة في اليوم الذي سيعلن فيه أسماء الفائزين بالامتحان

 

تجمع الأخوة الثلاثة والذي كان محمد ترتيبه الأخير من بينهم مع وجود الوالدين... إنه يوم ينتظره الجميع بكل تأكيد... المذيع يعلن أن الطالب/ محمد عبدالله أحمد حسين جاء في المركز الثاني على مستوى الجمهورية... صاح الجميع فرحا وطربا وفخرا بولدهم... حلم من سلسلة أحلام رسمها ذلك الشاب في مخيلته هاهو يتحقق... كانت محطة أحلامه الثانية هي التحاقه بكلية التربية/ عدن... لم يكن حينها يعلم ما تخفيه له الأقدار... في حفل تكريم أوائل الفائزين بالثانوية العامة وقف إلى جانب زملائه وهم يتبادلون الحديث... أحدهم كان يتحدث على أن هناك بعثات خارجية تخصصها الدولة لأوائل الطلاب...كانت كلمة ذلك الطالب بمثابة الإشارة الإلهية الموجهة للشاب تحدد له اتجاه الطريق... بعقلية الصياد الماهر تلقف ما ورد إلى مسامعه... رتب ملفه وتقدم به لإدارة البعثات بالوزارة المختصة

 

ولإن الشروط تنطبق عليه فقد تم إختياره ضمن قوام ((30))طالب سوف يتم ابتعاثهم لجمهورية ألمانيا الشرقية... عاد لمنزله والتقى بعائلته وأخذ مباركتهم وموافقتهم وتشجيعهم له على ذلك... طااااار ذلك ((النورس الفقمي)) بجناحيه نحو المجد والعلا... في ألمانيا وكحال كل الدول الغربية يسمح للطالب الأجنبي من أن يدرس لعامين دراسيين لغة ذلك البلد ومن بعدها يبدأ الدراسة الجامعية في التخصص المرسل إليه من بلده...محمد اجتاز ذلك في عام وآحد فقط... بينما استمر زملائه للعام الثاني لدراسة اللغة.

 

 هذه القدرات التي بدأت بالظهور لدا الشاب بالإضافة للمركز المتقدم الذي أحرزه في امتحانات الثانوية العامة لفتت نظر الألمان تجاهه... هناك وفي بلد أوربي كألمانيا مقياس الذكاء والقدرات الذهنية للأنسان البشري في حقل التعليم هو الأهم... هناك لا يهم إبن من أنت ولا لأي قبيلة تنتمي ولا رصيد أسرتك المالي في البنوك العالمية... أن يجتاز طالب من اليمن الديمقراطي تلك الدولة النامية دراسة اللغة في عام وآحد فقط يعطي مؤشر أن هذا الطالب ذو قدرات استثنائية يجب الأهتمام والأعتناء به...عين هذا الشاب سكرتيرا للطلاب المبتعثين معه...من حينها أطلق عليه أسم (( محمد الفقمي)) نسبة لقريتنا (( فقم )) التي تربى في كنفها...من حينها التصق اسم فقم المحفور حبها بين زوايا قلبه بأسمه...كان ذلك الأسم حاضرا معه في ألمانيا في عدن في صنعاء في جنيف بسويسرا طوال 30 عاما... كان فخورا جدا بذلك..

 

زاره الألمان ليسألوا عن رغبته في دراسة التخصص الذي بعث به من بلده وهو (( العلوم الأجتماعية)) فأخبرهم عما يدور في عقله ووجدانه من رغبة في تغيير مجال الدراسة.. قال : إني اريد أن أدرس ((علاقات دولية))... أخبروه أنه لايوجد تخصص بهذا الأسم انما يسمى (( علوم سياسية)) وتشمل دراسته العلاقات الدولية والقانون الدولي وغيره... أخبروه ان تغيير مجال الدراسة ليس بالأمر السهل وخصوصا أن هذا المجال الذي يرغب فيه هو في أغلبه حق حصري للطلاب الألمان ونادرا ما يتم قبول طلاب أجانب... غادرت المجموعة المكان بعد ان وعدوه بأن يناقشوا ذلك مع وزارة التعليم العالي الألماني..

 

ولأن الشاب في دائرة الأهتمام أبلغ بعد أسبوع فقط من ذلك اللقاء أنه تم قبول نقله للتخصص الذي يرغب به وهو دراسة((العلوم السياسية))... يبدو أن ذلك الشاب يضع قدميه بخطوات ثابته نحو مستقبل زاهر ترافقه دعوات ((أم)) ترفع أكفها كل حين بالدعاء له كيف لا وهي من عرفناها بمداومتها على تلاوة كتاب الله تعالى... اجتاز ذلك الشاب سنوات الدراسة الأولى ونال شهادة البكلاريوس بتفوق وكرم مرتين كانت الأولى من الجامعة التي درس فيها حيث كانت الجامعة الالمانية تحرص على تكريم الطلاب المتقدمين في دراستهم والمحافظين على نفس مستواهم لمدة عامين متتالين حيث تم تكريمه بشهادة تقدير بالاضافة الى رفع المخصص المالي الشهري المخصص للطلاب ورحلة سفر الى جمهورية (( المجر)) شاملة كل التكاليف... وكان التكريم الثاني من وزارة التعليم العالي الألمانية أيضا للطلاب المتفوقين والمحافظين على نفس مستوى تقدمهم العلمي خلال مرحلة الدراسة وللسنوات الأربع وكان التكريم بشهادة تقدير ومخصص مالي ورحلة سفر شملت ((موسكو بروسيا.

 

كييف بأوكرانيا...وسوتشي على البحر الأسود)) مع تحمل الوزارة تكاليف الرحلة كاملة... ثم أكمل بعدها دراسة الماجستير الذي ناله وبأمتياز ليفاجئ بعرضين تقدم بهما الطرف الالماني بتعيينه كمعيد في الجامعة هناك... وتقدمت سفارة اليمن الديمقراطي بعرض العمل فيها وتركوا له الخيرة في الاختيار... اختار محمد الفقمي العمل في السفارة وفعلا عمل لمدة سنة ونصف تعرف فيها على العديد من الشخصيات القيادية في بلدنا وبنفس الوقت أعطت له تلك الفرصة في العمل تطبيق ما درسه على الواقع... في تلك الفترة زار نائب وزير الخارجية لليمن الديمقراطي ألمانيا لاستكمال دراسته العليا.

 

كان الشاب محمد معينا له في مجال الترجمة... طلب منه ذلك النائب أنه اذا عاد الى الوطن عليه بالتواصل معه لغرض توظيفه في وزارة الخارجية... وفعلا عاد محمد الفقمي الى الوطن وتم توظيفة في عام 89م في ((دائرة الوطن العربي ثم في دائرة اوربا))... تسارعت الأحداث بعد ذلك العام ليتم الاعلان عن الوحدة اليمنية... انتقلت الوزارة الى صنعاء ليصبح مقرها الرئيس هناك... وآصل محمد الفقمي عمله في فرع الوزارة بعدن حتى حرب 94م... في اغسطس 95م وبعد هدوء الأوضاع طلبت وزارة الخارجية في صنعاء من جميع كوادرها الحضور الى هناك وكان من ضمنهم محمد الفقمي.

 

هناك تم تعيينه ((كرئيس قسم الدول الناطقة بالألمانية)) وبعدها بعام واحد فقط اي 96م (( كان عاما مهما في حياة الشاب محمد الفقمي)) حيث تم تعيينه ((دبلوماسيا بدرجة سكرتير أول في البعثة الدائمة لليمن في الأمم المتحدة جنيف /سويسرا)) ولمدة اربع سنوات كاملة أنتهت في 2000م كانت بمثابة نقلة نوعية في حياة الشاب محمد الفقمي... خلال تلك الاربعة الاعوام استمر ذلك الشاب في تطوير مداركه حيث التحق بمعهد البحوث والتدريب التابع للأمم المتحدة ليدرس دورات عديدة في مجالات تخصصه ليختمها بنيله لشهادة عليا وهي ((شهادة الزمالة ما بعد الماجستير))... عاد بعدها الى صنعاء ليعمل مدة عامين ((مستشارا في مكتب وزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية واوروبا))..

 

 

 ثم عمل ((مديرا لمكتب وكيل وزارة الخارجية لشوون المنظمات الدولية واوربا والامريكيتين))... وفي العام 2004 تم اعادة تعيينه وللمرة الثانية في البعثة الدائمة لليمن في الامم المتحدة (( جنيف سويسرا)) ((مسؤولا عن الشؤون الاقتصادية والعلاقات الثنائية مع سويسرا)) ليستمر في تلك الوظيفة مدة اربع سنوات انتهت في 2008م ليعود مرة اخرى لمقر الوزارة في صنعاء ويعين ((مديرا لادارة القضايا الخاصة في مكتب وزير الخارجية))... في 2009 تمت ((ترقيته لوزير مفوض وتعيينه نائبا لرئيس دائرة مكتب وزير الخارجية))... وخلال الفترة 2010-2012 ((عين رئيسا لدائرة مكتب وزير الخارجية))..

 

بعدها وتحديدا في 2012م تم تعيينه وللمرة الثالثة ((قائما بأعمال المندوب الدائم لليمن في الأمم المتحدة)) وبعد تعيين الدكتور مجور مندوبا دائما لليمن في الأمم المتحدة تمت ((ترقية الاستاذ محمد الفقمي الى درجة سفير ليصبح سعادة السفير/ محمد الفقمي نائب للمندوب الدائم لليمن في الأمم المتحدة (( جنيف سويسرا))مسؤولا عن عدة ملفات انسانية وحقوقية وثنائية... ليستمر في ذلك المنصب منذ 2012 حتى يومنا هذا.

 

يجيد سفيرنا العزيز ثلاث لغات إلى جانب العربية الأم (( الأنجليزية.. الألمانية.. الفرنسية)).. تاريخ حافل بالنجاحات.. اجتهد وثابر وصبر فكان له ما أراد... متزوج وله أربعة من الأبناء(( ولد وثلاث بنات)).. لازال ذلك النورس الفقمي يحن لقريته ولساحلها وبحرها.. أخبرني وحرارة الشوق ظاهرة في حروف كلماته انه لو كان في العمر بقية وعاد الى أحضان قريته فإنه سيعود لممارسة هوايته المفضلة في صيد السمك...انه سحر البحر يا سادة عشق لا ينتهي مهما طالت سنوات البعد وتطاولت المسافات (( مهما يطير الطير لا جو السماء لابد لابحره يعود)).