"أولاد جلوة" حكاية خلدونية تكشف أسرار عالم البداوة القاسي
تعود رواية “أولا جلوة” للروائي الأردني قاسم توفيق بقارئها إلى أيام مبكرة من تاريخ المنطقة العربية المعاصر، محاولة أن ترصد ظاهرة البداوة وتحلل سماتها الداخلية وتفاعلها مع الأحداث الاجتماعية والسياسية المحيطة بها.
الرواية، الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، تقع أحداثها خلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، وهي فترة شهدت إهمالا للمنطقة العربية، ما أدى إلى غياب تأثير الدولة وانتعاش النفوذ القبلي في مناطق واسعة من الجغرافيا العربية.
العنوان يحيلنا إلى ظاهرة اجتماعية كانت منتشرة في مناطق واسعة من البلاد العربية متصلة بجرائم القتل، عندما يضطر أقارب الجاني حتى الجد الخامس إلى الجلاء عن أماكن سكنهم إلى مناطق بعيدة لحماية أنفسهم من ثأر أهل المجني عليه. هذه الظاهرة، التي كانت تتسبب بمآسي اجتماعية وإنسانية، تركت أثرها على التطور الاجتماعي في البلدان العربية، وكانت عاملا ساهم في تفكك المجتمعات وعزلتها وتخلفها.
تمتد أحداث الرواية من لحظة تأسيس مدينة “تعريس” التي أنشأها زعيم إحدى القبائل البدوية، المعروف بسطوته وعنفه في الغزو والحكم وقطع الطرق أمام القوافل، في منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا الحاضر. وتمر بالمدينة أحداث عظيمة تشهد مؤامرات تحاك بين أبنائها وبقية القبائل، إضافة إلى قدوم المستعمرين الأوروبيين. وتصبح “تعريس” أول مدينة على الأرض تقصف بالطائرات في تاريخ البشرية، وذلك في بداية العقد الثاني من القرن العشرين.
تحاول الرواية أن تكشف عن تأصل النزعة البدوية في نفس العربي حتى بعد أن يصبح مدنيا وحضاريا في سلوكه ومظهره، حيث تصف عددا من الجلوات، وأثرها في ترحيل وهدم وحرق منازل أهل القاتل، إضافة إلى قتل الكثير من الأبرياء بحجة أن بينهم وبين القاتل صلة دم، وإن كانت بعيدة.
ورصدت الرواية الصراعات الداخلية في القبيلة، والتنافس الذي يخوضه الأفراد على النفوذ والمغانم، إضافة إلى تأثير المرأة في شؤون القبيلة وقدرتها على تسيير الأحداث بما يحقق أهدافها البعيدة التي تغيب عن أقرب الناس لها.
وتعالج كذلك، في تأثر واضح بالنظرية الخلدونية، انتقال النفوذ داخل القبيلة من جيل إلى جيل، وتظهر عوامل الضعف والفرقة التي تنتاب هيكلية الحكم فيها، ثم الانحلال الذي ينتابها مع اشتداد الصراعات وبروز ظاهرة الثأر التي تنتهي بحرق الأخضر واليابس.
يقدم السرد في الرواية من خلال شخصيتين: الأولى شاب من القبيلة الذي يدون الأحداث التي مرت على القبيلة، والثانية السارد الذي يحلل الوقائع والشخصيات التي يكتبها الأول بانيا عليها تصوراته، مشكلا البناء الروائي.
ولجأ الكاتب إلى أسلوب مبتكر في سرده للأحداث، إذ قدم أكثر من لوحة لنهاية الرواية، وجعل الشاهد على تلك النهاية شخصية تنتمي إلى الحاضر الذي يواكب زمن كتابة الرواية، في إشارة إلى استمرار تأثير القديم في الحديث مهما تباعد الزمن وتطورت المجتمعات.
تقول تلك الشخصية في نص وضع على غلاف الرواية “أنا يا سيدي إنسان يعرف كم بقي له من أنفاس على الأرض. حيرتكم أنتم – المفكرين والكتاب – في فهم كنه الوجود؛ مسألة تجاوزتها منذ البدايات؛ أقصد منذ أنْ جئت إلى الدنيا في هذا المكان الذي تجاوز عمره مئات السنين، لكنه لم يتغير عن لحظة تشكله الأولى. لقد ظل ثابتا في مكانه إلى اليوم وحتى هذه اللحظة. ما تعلمته وعرفته عن هذا المكان من الشيوخ الكبار والجدات اللواتي التقيتهن وسمعت قصصهن قبل أن يغبن عن الدنيا، عن أيام جدنا الأكبر ‘محسد’ الذي أسس مدينتنا ‘تعريس’ التي عشت طوال حياتي فيها وأكتب لك منها الآن، جعلني أفهم أنه لا شيء في حياتنا قد تغير منذ تلك الأيام، فلا يزال يحكمنا هذا الجد حتى اليوم”.
ومن الجدير ذكره أن قاسم توفيق ولد عام 1954، وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية عام 1978. وقد حصل على جائزة كتارا للرواية العربية (2018) عن روايته “نزف الطائر الصغير”، ووصلت روايته “ليلة واحدة تكفي” إلى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية (2022). وأصدر مجموعة كبيرة من الروايات والمجموعات القصصية خلال الفترة الممتدة بين العامين 1987 و2021، كان آخرها “حانة فوق التراب” (2015)، و”ميرا” (2018)، و”نشيد الرجل الطيب” (2020)، و”جسر عبدون” (2021).