ما لجرحٍ بميّتٍ إِيلَامُ!



ومِنْ أبياتِ أبِي الطَّيّبِ المُتَنبِّي التَّي يُرسِلُ فيهَا الأمثالَ والحكمَ، فتشيعُ وتنتَشرُ وتُصبحُ من محفوظاتِ الصُّدور، ومقولاتِ الأفْواهِ، وأحاديثِ الألسنِ، قولُه:

 

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ

 

تَضمَّن بيتُ المُتَنبِّي، هذا، مثليْنِ اثنيْن، أولُهُمَا في صَدرِه: مَنْ يَهنْ يسهلُ الهَوانُ عليه، وثانِيهما في عجزِه: ما لِجرحٍ بميّتٍ إيلامُ.

 

وإرسالُ مثلينِ في بيتٍ واحدٍ تميُّزٌ اُختصَّ به شعرُ أبِي الطَّيب.

 

ويَهنْ: أي يُصبحُ هيّنًا مُهَانًا باختيارِه، فيهونُ في نفسِه، ولذلكَ هو لا محالةَ سيكون عُرضةً لإهانةِ غيرِه له، ومنْ هوانِه على نفسِه، وهوانِه على النَّاس، ستكونُ إهَانةُ غيرِه له، أمراً سهلاً عليه، وسَتَمُرُّ عليهِ مرورَ الكِرَامِ، ولا كَرامةَ له، ولولَا استفاضةُ التعبيرِ (مرور الكرام)، لنَزَّهتُه، وفيه ذكرُ الكِرامِ، عن استخدامِه مَع مَنْ يَقبلُ الإهانةَ، وبئسَ القبولُ والمقبولُ.

 

ولأنَّ أبَا الطَّيّبِ خبيرٌ بالنُّفوسِ، عَارِفٌ بمَا يجتاحُهَا من طُقُوس، قالَ وكَأنَّه يَعنِي المُهانَ:

 

فِي النَّاسِ أَمْثِلَةٌ تَدُورُ حَيَاتُهَا كَمَمَاتِهَا ومَمَاتُهَا كَحَيَاتِهَا

 

فَلَا غرابةَ ألَّا يتَمَعَّرَ وجهُهُ غَضباً، فالهَوانُ والإكرامُ عندَه بمنزلةٍ واحدة، مثل تساوي منزلتي الحياةِ والمماتِ، والمماتِ والحياة!

 

فَمَا قيمةُ الأنفاسِ، عندَ هذه النَّاس؟!

 

والنَفَسُ، مفردُ الأنْفَاسِ، وهو مَا يستخدِمُه المرءُ للتَّنفسِ، واشتُقَّ النَّفَسُ من النَّفْسِ، وجَمعُ النَّفْسِ: أَنفُسٌ، وسَبَبُ الاشْتِقَاقِ: أنَّ انقطَاعَ النَّفسِ، مُهلِكٌ للنَفْسِ.

 

ومثلُه، قولُ أبِي الطَّيّبِ أيضاً:

 

ومَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بنَاظِرِهِ إِذَا اسْتَوتْ عِنْدَهُ الأَنْوارُ والظُّلَمُ

 

أي: ماذَا يُفيدُ النَّظر، إذَا كانَ النُّورُ والظَّلمَاءُ مُتسَاويين في المَنزلةِ، مُتَطابقين في الدَّرجةِ، مُتَماثلين فِي الأثر؟!

 

أليسَ من أجلِ ذلك، اعتَبرَ المُتنبِّي الوُصولَ إلى هذهِ المَرحلةِ من التَّفكير، دَليلاً على أنَّ الأفهَامَ ليسَ فيهَا صحيحٌ، ولا مَا لا يصحُّ، فقال:

 

ولَيسَ يَصِحُّ في الأَفْهَامِ شيءٌ إذَا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ

 

إنَّ القَلبَ من النَّهارِ نورُه، وإذا اسْتَوَتِ الأَضْدادُ المتناقِضَةُ، وصَارَ النُّور ظلمةً، وأصْبحَ مُحتاجاً إلى دَليلٍ، فهوَ في وضعٍ ذَليل، بتساوي الصَّحيحِ والعَليل.

 

وكأنَّ المُتَنبِّي أشَارَ إلَى المَعنَى ذاته، من زاويةٍ أخرى، في بيتِ شِعرِه، إذْ قالَ:

 

يَهُونُ عَلَينَا أنْ تُصابَ جُسُومُنَا وتَسْلَمَ أعْراضٌ لَنَا وعُقُولُ

 

وهُنَا يكونُ الهَوانُ مُستحبّاً، عندمَا يقعُ من أَجلِ مَنعِ ضَررٍ أكبرَ، وهو ضَرَرُ الأَعْراضٍ والعُقولِ. وهكذَا يفعلُ العُقلَاء، فمَا قيمةُ الجَسَدِ، أمامَ العَقْلِ والعِرضِ، ولذَا يقولُ أبُو الفَتحِ البستِي:

 

يَا خَادِم الْجِسْمِ كم تشقَى بخدمتِه أَتَطلبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسرانُ؟

 

أقبلْ علَى النَّفسِ واستكمِلْ فَضائلَها فَأَنتَ بِالنَّفسِ لَا بالجِسمِ إِنْسَانُ